• لوحة التحكم
  • مواضيع اليوم
  • خروج

ضــع اعــلانك هنا

انشاء حساب جديد

الترتباتتلتلتلاتل 
 عدد الضغطات  : 2698



  قبيلة بني رشيد > الساحات الادبية > المنتدى الأدبــــــــــــي
روائع عنترة الفارس عاشق الحرية

الملاحظات
اضغط هنا للانتقال الى الصفحة الرئيسة
للانتقال لصفحة مرابط بني رشيد

موضوع مغلق

 
خيارات الموضوع ابحث بهذا الموضوع

  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 15-08-2008, 06:40 PM
ثامر ضيف الله
عضو فعال
الصورة الشخصية لـ ثامر ضيف الله
رقم العضوية : 4282
تاريخ التسجيل : 29 / 5 / 2008
عدد المشاركات : 224
قوة السمعة : 18

ثامر ضيف الله بدأ يبرز
غير متواجد
 
مشاركة روائع عنترة الفارس عاشق الحرية
استعبده أهله لكنه كان يملك قلباً حراً . ورغم كل مافعلوه به إلا أنه حفر في الصخر ليثبت للجميع أنه حر ، وبالفعل أوصلته نفسه الحرة لما يريد رغم قلة الإمكانيات وقلة التشجيع وكثرة الأعداء. قلب كل مآسيه إلى أفراح أصبح العبد سيداً ، والمغمور مشهوراً، والفقير غنياً، بل وزاد على ذلك فأصبح درة التاج لقومه فقلما ذكر اسم قومه دون أن يذكر اسمه بل والله إن كثيراً من ذكر قومه لايرد إلا عند ذكره هو. فتعالوا معنا ندرس سيرة هذا البطل ونقرأ أشعاره لعلنا نجد فيها بصيص نور أو دليلاً هادياً للعرب ليخرجوا به من كبوتهم .

اليوم نمضي بكم في رحلة إلى أحد أسواق العرب أيام الجاهلية حيث نرى عدداً من أسيادهم يشترون بعض الإماء السودمن بنات الحبشة الذين كان تجار الرقيق يخطفونهم من هناك ويأتون بهم إلى جزيرة العرب ، ونرى فيهم أمة سوداء اسمها زبيبة يبدو عليها التعب الشديد .من يدري لعلها من بنات ملوك الحبشة وساقها قدرها ليد هذا النَّخاس الخبيث الذي يبيعها بثمن بخس . ويعرضها هذا النَّخاس ويعرض مزاياها أمام هؤلاء الأسياد من دون احترام لكرامتها. وهنا يُعجَب بها أحد أسياد عبس ويزاود فيها حتى يشتريها ، ويأخذها هذا السيد واسمه شداد بن عمرو بن معاوية من بني عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان ، ويمضي بها إلى ديار قومه بني عبس في بعض نواحي نجد ، وهناك يجعلها خادمة لإحدى زوجاته .

وتمضي الأيام بزبيبة وهي تخدم سيدتها العربية وفي إحدى الأيام تذهب سيدتها لبعض شأنها ويدخل عليها سيدها شداد بن عمرو فتروق له ويقع عليها ، ولم يكن هذا السيد يفكر أنه إذا وقع عليها ستحمل منه من أول مرة ولكنه أمر الله . حملت زبيبة من سيدها ولكن سيدتها لم ترحمها وهي حامل بل أجهدتها بالعمل طبعاً لأنها غارت منها لأنها عرفت أن هذه الأمة أصبحت تروق لشداد . وتعيش زبيبة وسط هذا الشقاء إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تلد فيه زبيبة ذلك الولد الذي جلب لها مزيداً من الشقاء، وتمضي بعد أن ذهب عنها التعب بهذا الولد إلى سيدها شداد الذي يفرح به ولكن ليس لكونه ابناً له وإنما لكونه إضافة ً جديدة لعبيده، فشداد لم يعترف بهذا القادم الجديد ابناً له ، وتسأله زبيبة :ماذا تريد أن تسميه ياسيدي ؟! فيبحث له عن اسم يناسب عبداً مثله فيسميه "عنترة" .

وتمضي الأيام وينشأ عنترة وسط أبناء العبيد الذي لايرى نفسه منهم . ومن يدري لعل أمه كان لأجدادها مجد وتاريخ فظلت تحكي له عن مجدهم ، وعندما يسألها عنترة عن أبوه تقول له إن أباك هو"شداد بن عمرو" فيتسآل هذا الصغير البريء : ولماذا يتركني أبي بين العبيد؟ . ويحس عنترة بشعور رهيب من الألم الذي يعتصر قلبه فهو ليس عبداً بل هو حر وابن حر فلماذا يترك بين العبيد؟ بل ولماذا تكون أمه خادمة وهي تحكي له أنها من بنات أسياد الحبشة. ويعرض عنترة نفسه على أبيه عدة مرات طالباً منه أن يعترف به ويُلحقه بنسبه فلا يزيد أبوه على أن يقول له:إنما أنت عبد . ولكن عنترة لايستسلم للظروف بل يحاول أن يتغلب عليها فيحاول أن يتعلم المبارزة ليكون فارساً بدلاً من حياة الرعي الذي شغله أبوه فيها ، ويطلب عنترة من إخوانه أن يعيروه سلاحاً وفرساً فيرفضون بل ويهزؤون به ، ويطلب ذلك من أبيه فيهزأ أبوه منه ويقول له: " إنما أنت عبد ، والعبد لايُحسن الكرَّ والفرًّ، وإنما يُحسن الحُلاب والصرَّ" فتضرب هذه الكلمات في قلب عنترة على وتر حساس ، ولكنه لايستسلم فقيل إنه رأى يوماً عند بعض العرب مُهراً مريضاً أعجبته مزاياه فاستبدله معهم بناقة من نياق أبيه وكانوا في هذا المهر من الزاهدين فهم لم يعرفوا مزاياه مثلما عرفها عنترة الراعي الخبير، وأخذ عنترة المهر وداواه ثم تشجع وباع ناقة ً أخرى من نياق أبيه واشترى بقيمتها سيفاً ورمحاً ودرعاً وترساً. وحين عاد عنترة إلى والده والإبل ناقصة سأله فقال له: سرقت! ولم يُعلمه بما صنع لكي لايحول بينه وبين هدفه الأكبر وهو تعلم الفروسية والقتال ، فيغضب أبوه غضباً شديداً ويسومه سوء العذاب ويتهمه بالضعف وكل هذا لايزيد عنترة ذو القلب الأبيِّ الحُر سِوى إصراراً على تعلم الفروسية، ولم يبالي عنترة بهذه العذابات فما يسعى إليه أكبر من كل شيء إنها الحرية والبطولة والعظمة. ويَقسِم عنترة يومه بين رعي إبل أبيه نهاراً وتعلـُّم الفروسية والمبارزة ليلاً بعيداً عن عيون الناس ، ويهتم في أثناء ذلك بالمهر الذي اشتراه وقيل أنه كان يسقيه حليب الإبل فنشأ المهر قوياً . ولكن أمر عنترة لايلبث أن يكشف فيستهزئ به الجهلة من إخوته وقومه الذين لايعلمون مدى العظمة الموجودة في نفس عنترة ومدى الإصرار الذي ملأ نفسه لتحقيق هدفه ، وتزداد العقبات عليه ويُجهدونه في العمل أكثر وأكثر وهو لايبالي فكل مايقاسيه الطموحين في سبيل المعالي مُحبَّب.وأخذ عنترة بعد فترة من التدريب يتعرض لمنافسة فتيان قومه في المبارزة بالسلاح والتسابق بالخيول، ويبدأ نجمه في الصعود ولكن أباه لايبالي فماهو إلا عبد في وجهة نظره. ثم أخذ عنترة يعرض نفسه على فرسان قومه ليخرج معهم في غزواتهم ويتعلم منهم مهارات الفروسية فلايرضونه إلا خادماً فيوافق ...وماذا في ذلك عنده فكل المصاعب تهون في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى.
ويخرج عنترة مع الفرسان المرة تلو المرة فيتعلم الطرق ومهارات الغزو وتشتد بالفرسان الصراعات مع أعدائهم أحياناً فيستنجدون بعنترة ويساعدهم عنترة وهو يأمل أن يعطوه من نتائج غزوهم فلايعطونه إلا النزر اليسير ، وحتى لو أعطوه النصيب الوافر فماذا يفعل به فماهو في نظر أبيه إلا عبد وكل غنيمة يغنمها عنترة ستعود إلى إخوته البلداء ... ولكن عنترة لايرضى بذلك فالفقراء في نظره أحق بالمال من إخوته فكان يوزع مايغنمه على الفقراء والمساكين من قومه .
ويلمع نجم عنترة بين قومه وتتفتح عينا عنترة على ابنة عم له اسمها "عبلة" سمعت عن بطولاته فدخلها إعجاب به ثم إنها تعرضت له يوماً وهو قادم من إحدى غزواته فضحكت له فطار فؤاده واستهام بحبها وفي تلك القصة يقول عنترة:
ضحكتْ عبيلة ُ إذ رأتني عارياًخلق القميص وساعدِي مخدوُشلا تَضْحكي مني عُبيلة ُ واعْجبيمني إذا التفَّتْ عليَّ جيوشُورأيتِ رمحي في القلوبِ مُحَكَّماًوعليهِ منْ فَيْضِ الدِّماءِ نقوشُألقى صدورَ الخيل وهي عوابسٌوأنا ضَحوكٌ نحْوها وبَشُوشُ
ولكن ماأعجب عنترة في عبلة ليس جمالها وحسب فشجاع مثله رأى آلاف الفتيات من أبناء الأقوام الذين كان يغزوهم ولعله رأى من هي أجمل من عبلة ولكن هذه الفتاة الحرة من قومه هي أول من قدَّر عنترة وأبدت له الإعجاب، والكل يعلم أن شخصاً يلاقي مالاقى عنترة من التجاهل لابد أن يكون شعوره تجاه أول شخص يقدره فياضاً فمابالك لوكان هذا المُعْجَب فتاة جميلة مثل عبلة ، ويزداد ألم عنترة من هذه العبودية التي فوق حرمانها له من الكرامة والشرف ستحرمه من أعظم حب له وهي ابنة عمه عبلة ، ولكن عنترة يتجرأ يوماً ويصارح عمه بحبه لابنته عبلة وأنه يريدها زوجة ً له ، فيغضب عمه ويقسم ألا يزوجه إياها ويقول له "إنما أنت عبد".
ولكن عنترة لايستسلم ولايمل من السعي لهدفه نحو الحرية ،وكان هدفه يصبح أقرب فأقرب كلما انتصر في غاراته على العرب ، ولكن كم ينبغي عليه أن يبذل من الجهد لينال حريته واعتراف أبيه وقومه بهذه الحرية؟! لابد من أن يحس قومه بأهميته لكي يعترفوا له بحريته ؛ وهنا يبدأ بالعمل على تحسيسهم بذلك فيخرج يوماً مع بعض فرسان قومه ليغزون قبيلة طيء ويغنمون فيطلب منهم عنترة نصيبه كاملاً فلا يعطونه فيعتزلهم وإذا بفرسان طيء يعودون الكرة على فرسان عبس ليستردوا منهم أموالهم فيستنجد العبسيين بعنترة فيقول لهم : دونكم القوم فهم عددكم ! فيقولون له: كر ياعنترة ولك ماأردت من الغنيمة وزيادة فينجدهم عنترة ويعطونه ماأراد .
وتبتسم الأيام لعنترة مرة ً أخرى ورُبًّ ضارًّةٍ نافعة ، كما أن مصائب قوم ٍ عند قوم ٍ فوائد؛ ففي أحد الأيام يغزو بعض فرسان العرب قبيلة عنترة ويسبون(يخطفون) بعض أخواته من بنات شداد وبعض بنات عمه وفيهم عبلة ويستاقون الإبل، وكان عنترة قد فاض به الغيظ من تجاهل أبيه له ،فقال في نفسه " لنرى مايفعل هذا الشيخ من دوني ؟ وليرى من أكثر أولاده نفعاً له؟!" فظل أولاد شداد الباقين يحاولون إنقاذ أهلهم ومالهم فلم يستطيعوا ، ولما علم شداد أنهم لن يجدون نفعاً استنجد بعنترة وقال له " كُرَّ ياعنترة على القوم كُرّ" فقال له عنترة :" أما كنت تقول أن العبد لايُحسِن الكَرَّ والفَرَّ ، وإنما يُحسِن الحُلاب والصَّرَّ"،فقال له أبوه:" كُرَّ ياعنترة وأنت حُرّ"، فيهجم عنترة على القوم ويقتل منهم ويجرح وهم يرهقهم بين الكر والفر حتى يستنقذ محارم أبيه وإبله،ثم يعود وإذا به يسمع عمه يستصرخه ويقول له :" كُرَّ ياعنترة على القوم ففيهم عبلة" ، فيقول عنترة :" إنما أنا عبد ومالي ولها" ، فيقول له عمه:" العبد غيرك وعبلة لك"، فيعيد عنترة الكَرَّة على القوم ويستنقذ ابنة عمه وأمواله، ويُقال أن عمَّه زوجه إياها بعد ذلك. ولكن الذي أميل إليه أن عمه لم يزوجه إياها بل تزوجت عبلة رجلاً آخر غير عنترة ، ويدلنا على ذلك أشياء منها اللوعة التي تنتابه في شعره دائماً عند ذكر عبلة، وأوضح شيء يدلنا على أن عبلة تزوجت رجلاً آخر غير عنترة هو أنه صرح بذلك في إحدى قصائده في أبيات خاطبها بها قال فيها:
يا عَبلُ كم من غمرةٍ باشرتها
بالنَّفْسِ مَا كَادتْ لَعمرك تَنْجَلي
فِيها لَوامعُ لَوْ شَهِدْتِ زُهَاءَها
لسَلَوْتِ بعد تَخَضُّبٍ وتَكَحُّلِ
إما تَرَيْني قد نَحَلْتُ وَمَنْ يكنْ
غَرَضاً لأَطْرافِ الأَسِنَّة ِ يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ بَعْلِكِ بادنٍ
ضَخْمٍ على ظهر الجواد مُهبَّلِ
غادَرْتهُ مُتَعَفِّراً أوصاله
والقومُ بين مُجَرحٍ ومُجَدَّلِ


فهو هنا بعد أن يفتخر ببأسه في الحرب يفتخر بأنه أفضل من زوجها ، ويقول لها كم من رجل أبيض ضخم مثل زوجك قتلته في ميادين الحرب أو جرحته فتركته يتخبط في دمائه.

والذي يهمنا هو أن عنترة بعد أن اعترف به أبوه ابناً له وبعد أن اعترف الجميع بحريته انقلبت حياته فجأة إلى الاتجاه المعاكس تماماً ، فبعد أن كان عبداً أصبح سيداً، وبعد أن كان فقيراً أصبح غنياً لأن كل ماغنمه هذا البطل الشجاع سيصبح حقاً من حقوقه، وبعد أن كان موضعاً للاستهزاء أصبح بطلاً قومياً يتمنى الجميع رضاه. ولكن هل استغل عنترة مزاياه هذه كما يفعل بعض الحقيرين حينما يسلطون على رفاقهم فيسومونهم سوء العذاب؟! هل استكثر السيد عنترة من العبيد والإماء وسبح في نعيم السيادة؟! أبداً! لم يكن عنترة كذلك ، بل المعروف والمشهور من قصة عنترة أنه لم يكن يستعبد أحداً، ولم يكن يسبي النساء ويجعلهن جوار ٍ عنده، وإذا حصل وأعجبته امرأة وسباها كان لايقربها حتى يستأذن أباها ويرسل له مهرها مهما كان هذا المهر، وفي إحدى قصائده المشهورة أشار إلى ذلك حين قال:
ما استـَمْتُ أنثى نَفْسَها في مَوْطِن ٍ حتى أوَفـِّي مَهْرَها مَوْلاها

كان عنترة قبل الحرية وبعدها عظيماً في بأسه وشجاعته وفي أخلاقه، فقد كان كريماً خصوصاً على الفقراء والعبيد من أبناء قومه وكان كالأب لهم بل قيل أنه على الرغم من كثرة مغازيه وكثرة ماغنمه منها مات فقيراً لكثرة ماكان يعطي من أمواله للمحتاجين ، وكان عنترة معروفاً بين قومه بالمروءة فبالرغم من قدرته وهيبته بين قومه إلا أن قدرته لم تجعله يعتدي على حق ضعيف أو يزني بأي امرأة من نساء قومه.

وبالرغم من أن والد عنترة اعترف به إلا أن حساد عنترة من بني قومه لم يزالوا يعيرون عنترة بعبوديته ، ولكن ماتلبث الأيام أن تثبت لهم أن هذا الذي يرون أنه عبد هو أنفع لهم من ألف حر ... فهاهي حرب داحس والغبراء تقوم بين بني عبس من جهة وبني ذبيان وحلفائهم من غطفان من جهة أخرى. واحتاج سيد عبس قيس بن زهير إلى رجل بألف رجل فلم يجد إلا عنترة الذي شاع ذكره في الآفاق وأصبح اسمه في الجيش ينوب عن جيشٍ كامل ، وبالفعل أبلى عنترة بلاء حسناً وفعل مالم يفعله أحد من قومه خاصة في يوم (معركة) المصانع ،وحق له بعد ذلك أن يقول:
إذا كشفَ الزَّمانُ لك القِناعا
ومَدَّ إليْكَ صَرْفُ الدَّهر باعا
فلا تخشَ المنية َ والتقيها
ودافع ما استطعتَ لها دفاعاً
ولا تخترْ فراشاً من حريرٍ
ولا تبكِ المنازلَ والبقاعا
وحَوْلَكَ نِسْوَة ٌ ينْدُبْنَ حزْناً
ويهتكنَ البراقعَ واللقاعا
يقولُ لكَ الطبيبُ دواك عندي
إذا ما جسَّ كفكَ والذراعا
ولو عرَفَ الطَّبيبُ دواءَ داء
يَرُدّ المَوْتَ ما قَاسَى النّزَاعا
وفي يوْم المَصانع قد تَركنا
لنا بفعالنا خبراً مشاعاً
أقمنا بالذوابل سُوق حربٍ
وصيَّرنا النفوس لها متاعا
حصاني كانَ دلاّل المنايا
فخاض غُبارها وشَرى وباعا
وسَيفي كان في الهيْجا طَبيباً
يداوي رأسَ من يشكو الصداع
أَنا العبْدُ الَّذي خُبّرْتَ عَنْهُ
وقد عاينْتَني فدعِ السَّماعا
ولو أرْسلْتُ رُمحي معْ جَبانٍ
لكانَ بهيْبتي يلْقى السِّباعا
ملأْتُ الأَرضْ خوْفاً منْ حُسامِي
وخصمي لم يجدْ فيها اتساعا
إذا الأَبْطالُ فَرَّت خوْفَ بأْسي
ترى الأقطار باعاً أو ذراعا


وظل عنترة في جميع أيام عبس ومعاركها درة تاجهم وبطلهم المقدم ، وكانوا إذا احتاجوا في معاركهم لأداء أمر عظيم ولوا عنترة الأمر فكفاهم إياه ، فكم من بطلٍ من أعدائهم قتله عنترة ، وكم من صراعات شرسة ومبارزات كان المقدم فيها، بل قيل أنه في حرب لعبس ضد قبيلة تميم انهزمت عبس هاربة من تميم فوقف عنترة مع عدد بسيط من فرسان عبس الأشاوس يناضلون تميم حتي تتمكن قبيلة عبس من الهرب وبالفعل حموا قومهم ولم يصب منهم أحد. وفي ذلك قال عنترة أروع قصيدة له بعد المعلقة المشهورة وهي التي يقول فيها:

أفَمِنْ بكاءِ حمامة ٍ في أيكة ٍ
ذرفتْ دموعكَ فوق ظهر المحملِ
كالدرِّ أو فضض الجمانِ تقطعت
منهُ عَقائِدُ سِلْكهِ لم يُوصلِ
لما سمعتُ دعاءَ مرَّة إذ دعا
ودُعاءَ عبْسٍ في الوَغى ومُحلِّلِ
ناديتَ عبساً فاستجابوا بالقنا
وبكلّ أبيضَ صارمٍ لم يَنْجَلِ
حتى استباحوا آلَ عوفٍ عنوة ً
بالمَشْرَفيِّ وبالوشيج الذُّبَّلِ
إني امرؤُ منْ خير عبسٍ منصباً
شطري وأحمي سائري بالمنصلِ
إنْ يُلحَقُوا أكْرُرْ وإنْ يُسْتلحَمُوا
أشددْ وإنْ يلفوا بضنكٍ أنزِلِ
حين النزول يكونُ غاية َ مثلنا
ويَفرُّ كلُّ مُضَلَّلٍ مُستَوْهِلِ
ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلهُ
حتى أنال به كريمَ المأكلِ
وإذا الكَتيبة ُ أحْجَمتْ وتلاحظَتْ
ألفيتُ خيراً منْ معمَّ مخولِ
والخيلُ تَعلمُ والفَوارسُ أنني
فرَّقْتُ جمعهم بطعنة ِ فيصلِ
إذ لاَ أبادرُ في المضيق فوارسي
ولاَ أُوكلُّ بالرعيل الأوَّلِ
ولقد غدوت أمامَ راية ِ غالبٍ
يوْمَ الهياج وما غَدَوْتُ بأَعْزلِ
بكَرتْ تخوفني الحتوفَ كأنني
أَصْبحْتُ عن غَرض الحَتوفِ بِمَعْزِلِ
فأَجَبْتُهَا إنْ المَنيَّة مَنْهلٌ
لا بدَّ أنْ أُسْقَى بكأْس المنْهلِ
فاقني حياءك لا أبالكِ واعلمي
أني امرؤ سأموتُ إنُ لم أقتلِ
إنَّ المنيَّة لو تُمثَّلُ مُثـِّلتْ
مثلي إذا نزلوا بضنك المنزلِ
والخيلُ ساهِمة ُ الوجُوهِ كأَنَّما
تسقى فوارسها نقيع الحنظلِ
وإذا حملتُ على الكريهِة لم أقلْ
بعد الكريهة ِ ليتني لم أفعلِ





مع معلقة عنترة:
- نتوقف اليوم قليلاً مع أجمل النماذج الشعرية لعنترة وعلى رأس هذه النماذج معلقته المشهورة التي أبدع فيها أيما إبداع، وقد قيل أنه كان قبل أن يقولها لايقول إلا المقطعات الشعرية حتى أغضبه أحد بني عبس من الذين كانوا يحسدونه على المرتبة العظيمة التي وصل إليها على مستوى قبيلته بل وعلى مستوى الجزيرة العربية بأجمعها فقد طبق ذكر بطولاته الآفاق، فقد قال له ذلك الحاسد في مشاحنة كلامية بينهما: ياأسود الوجه يا ابن الجارية والله إن العرب كلها لتقول الشعر وأنت ياعبد لاتحسن الشعر فما أنت من العرب؟ فقال له عنترة: والله إن الناس ليترافدون الطعام ، فما حضرت أنت ولاأبوك ولا جـَدُّكَ مَرْفـَدَ النـَّاس قـط ُّ ، وإن الناس ليُدعـَونَفي الغارات فيُعرفون بتسويمهم ، فما رأيتُك في خيلٍ مُغِيرَةٍ قطُّ ، وإنَّ اللَّبس ليكون بيننا فما حضَرْتَ أنت ولاأبوك خُـطـَّة فـَصْل ، وإنـَّما أنت فَقْعٌ بَقـَرْقـَر. وإنـِّي لأحتـَضِرُ البأس ، وأوفي المغنم ، وأعِـفُّ عن المسألة ، وأجُودُ بما مَلَكـَت يدِي، وأمـَّا الشـِّعر فستعلم. ثـُمَّ لم يعـُد إلى مجلسه ذلك إلا وقد قال معلقته.
نعم إخوتي لم يكن عنترة من أهل المقال فقط بل كان قوَّالاً فعـَّالاً . يربط القول بالفعل ، ولم يكن مثل أكثر أهل زماننا يقولون من الكلام مالو طبَّقوا عُشرَه لأصبح الكون كله ملكأً لهم ، لكنك تجدهم بعد هذا الكلام عبيداً للكون كله. نعم إخوتي لو كان عنترة مثل أهل زماننا لقال لنفسه : والله لقد أفحمت الرجل ولن يعود لها بعد هذا. لكن عنترة كان لايرضى أن يعاب بشيء وحين كشف له شخص - حتى ولو كان عدُوًّا له - عن عيبٍ من عيوبه فإنه ظلًّ يُفَـكِّر كيف يُصْلِح هذا العيب ، وبذل كل جهده حتى استطاع أن يُصلحه . ألاّ يستحق مثل هذا الشخص أن يتوّج بأرفع وسام على مدى الدهور؟! نعم إخوتي نال عنترة ذلك الوسام ! أتعرفون ماهو ؟!
لقد حاز عنترة على إعجاب العرب كلهم وعلى رأسهم أعظم شخص في العالم منذ خلق الله الأرض ومن عليها! نعم إخوتي لقد حاز عنترة على إعجاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال عنه:ما وُصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
نعم لقد استحق هذا العظيم عالي الهِمِّة هذا الثناء؟ فماهو إلا أن يتنبه لأي عيبٍ فيه حتَّى يسعى لإصلاحه. وماهي إلا كلمات قدح بسيطة لاتضر عظيماً مثله إلا ويخرج لنا بقصيدة عدِّتها العرب في معلقاتها، بل وأفردها دون غيرها من المعلقات باسم خاص فقالوا عنها " المُذ َهَّبة "، وقد استحقت هذه المعلقة كل هذا الثناء لأنها احتوت مزايا المعلقات بل وزادت عليها، ففيها الافتتاحية الطللية الجميلة، وفيها الوصف البديع ، وفيها الفخر الصادق فعنترة لم يفتخر إلا بأفعاله، فهو لم يهول أفعاله مثل أكثر الشعراء ، ولم يفخر بغيره فهنا في هذه المعلقة فخرٌ يندر أن نرى مثله، وفيها عاطفة غريبة تحدث عنها كثير من النقاد بين عنترة وحصانه فانظر إلى ذلك الحوار العاطفي الذي يتخيل عنترة أنه دار بين عنترة وحصانه، وفيها وصف عجيب لهذا الحصان وحاله في المعركة وهذا الوصف يزيد إعجابنا بعنترة وشجاعته ، فأنت تعجب لشخص يدخل معركة ويتفرغ ذهنه لمتابعة حركات فرسه وانفعالاته . إن شخصاً يخوض المعركة كأنها نزهة لحقيق أن يقال عنه أشجع الشجعان. كما التفت النقاد إلى أسلوب جميل كان عنترة من أوائل الشعراء الذين طرقوه ألا وهو" أسلوب الإنصاف مع الخصم " ولم يكن هذا فقط نابعاً من أخلاق عنترة الفروسية وحسب، بل كان نابعاً من ذكائه الأدبي فماذا ينفع إن قلت للناس أنك قتلت خصماً ضعيفاً . حينها سيقول كل الناس : وماذا في ذلك كل الناس في إمكانهم أن يفعلون مثلك؟! لكن عنترة أحب أن يعطي بطولته حقها الذي تستحقه ، فأنصف خصمه ليقدر الناس شجاعة عنترة بالقدر التي هي أهلٌ له. كما لانغفل أيضاً عن الأوصاف البديعة التي ذكرها عنترة في أعظم محبوبتين له ألا وهما: عبلة ، والحرب.
أما الآن فإلى نظرة إلى هذه القصيدة الرائعة التي لايقلل من روعتها إلا صعوبة بعض الألفاط فيها ، ولكن سنتلافى ذلك بالتطرق إلى الحديث عن بعض أبياتها الجميلة وشرحها شرح مبسط، عموماً سوف نلقي نظرات بسيطة على هذه القصيدة ثم نوردها كاملة. والبداية استعراض لمهارة البكاء على الأطلال كعادة الشعراء للجاهليين :

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ
أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّـمِ
يَا دَارَ عَبْلـةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِـي
وَعِمِّي صَبَاحاً دَارَ عبْلةَ واسلَمِي



وأول مايلفت نظرنا هنا في هذه المعلقة بيت استغربت له استغراباً شديداً وهو قوله:

عُلِّقْتُهَـا عَرْضاً وأقْتلُ قَوْمَهَـا
زعماً لعَمرُ أبيكَ لَيسَ بِمَزْعَـمِ


فالغريب هنا أن عنترة يحكي أن قتالاً وقع بين قومه وقوم محبوبته التي هي عبلة . وإن كانت القصص تحكي لنا أن عبلة هذه ابنة عم عنترة فلم تحكي لنا أن قتالاً حصل بين عنترة وبني عمه ، لكن هذه الأبيات تجعلنا نجزم أن قتالاً مثل هذا حدث ، وربما كان هذا هو السبب الذي منعه من الزواج منها بعد أن وعده عمه بالزواج منها.

وثاني مانتوقف عنده هو بديع وصفه لمحبوبته عبلة ومن ذلك قوله:

إذْ تَسْتَبِيْكَ بِذِي غُروبٍ وَاضِحٍ
عَـذْبٍ مُقَبَّلُـهُ لَذيذُ المَطْعَـمِ
وكَـأَنَّ فَارَةَ تَاجِرٍ بِقَسِيْمَـةٍ
سَبَقَتْ عوَارِضَها إليكَ مِن الفَمِ
أوْ روْضـةً أُنُفاً تَضَمَّنَ نَبْتَهَـا
غَيْثٌ قليلُ الدَّمنِ ليسَ بِمَعْلَـمِ


فهذه المحبوبة أسرته بجمال ابتسامتها التي تظهر من ورائها أسناناً وريقاً توحي لك بأن قبلة من ذلك الفم لها عذوبة وطعم لامثيل له، ثم أنه حين يقترب منها يشم من فمها رائحة طيبة كأنها خرجت من ذلك الوعاء المسمى( الفارة) الذي يستعمله التجار لحفظ العطور يتخيل أنها من عوارضها التي هي الأسنان التي تلي الأنياب ، أو كأن هذه الرائحة رائحة روضة ممطورة لم تطأها قدم فهي نقية لاتخالطها روائح النفايات وبقايا الحيوانات بل لاتشم فيها سوى رائحة الأزهار.

ومن ثم نتوقف عند مقارنته بين حياته وحياة محبوبته فهي :
تُمْسِي وتُصْبِحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشيّةٍ
وأَبِيتُ فَوْقَ سرَاةِ أدْهَمَ مُلْجَـمِ
وَحَشِيَّتي سَرْجٌ على عَبْلِ الشَّوَى
نَهْـدٍ مَرَاكِلُـهُ نَبِيلِ المَحْـزِمِ


فمحبوبته تمسي وتصبح على فراش وثير محشو ، وهو يبيت فوق ظهر حصانه الأسود مدافعاً عن القبيلة، وبينما فراشها محشو بالأشياء اللينة فالحشوة التي يبيت عليها عنترة هي ذلك السرج الغليظ فوق حصانه الغليظ القوائم، العريض الأفخاذ ،السمين البطن.

ثم نمر سريعاً على وصفه لناقته حيث نلاحظ مع عنترة ومع غيره من كبار الشعراء أن الوصف حين يكون عن الناقة فإن الشاعر يسترسل فيه ويطيل ، ويتطرق من ضمن ذلك لكلمات غريبة ، وقد لاحظت في شعر كثير من أكابر شعراء العرب أن أغرب كلماتهم تأتي في سياق وصف الناقة والفرس، ولعل ذلك يرجع لعلاقتهم الكبيرة مع الناقة والفرس التي جعلتهم يتفننون في تسمية أعضائها وتشبيهها بأشياء كثيرة، وعنترة في انتقاله من وصف المحبوبة والحديث عنها إلى وصف الناقة حقق مايسميه الأدباء ب"فن حسن التخلص" ، فقد انتقل بسلاسة حين أسهب في الحديث عن المحبوبة ثم قال هل تبلغني ديار هذه الحبيبة ناقة شدنية-وشدن مدينة باليمن عرفت بجودة نياقها- ثم أسهب في وصف الناقة في أكثر من عشرة أبيات وأجمل الصور التي صورها في وصفه للناقة حين أراد أن يصور لنا نشاطها فقال:

وكَأَنَّما يَنْأَى بِجـانبِ دَفِّها الـ
وَحْشِيِّ مِنْ هَزِجِ العَشِيِّ مُـؤَوَّمِ
هِـرٍّ جَنيبٍ كُلَّما عَطَفَتْ لـهُ
غَضْبَى اتَّقاهَا بِاليَدَينِ وَبِالفَـمِ


فهو يقول أنها من نشاطها كأن هرّ ًا مربوطاً بجانب دَفِّها-أي إبطها- وهذا الهر يخدشها كلما أبطأت لكي تزيد سرعتها ، وكلما حاولت هذه الناقة الانعطاف إلى الهر لتؤذيه زادها عضاً بفمه وخدشاً بيديه لكي لاتؤذيه.

ثم نلتفت لبيتٍ جميل يحكي عن مأساة لذيذة من مآسي الفرسان فهم في حين يسهل عليهم قتل الفرسان وهم بكامل عتادهم يستعصي عليهم أحياناً مع أخلاقهم الفروسية أن يكشفوا القناع عن محبوباتهم حين يمنعونهم من رؤية تلك الوجوه المليحة مع أن نزع القناع أسهل من نزع أرواح الأبطال ، وكم سمعنا عن فرسان يصرعون الأبطال وهم أسود في الحرب ، ولكن عند الغواني هم خرفان وديعة وكل هذا لأن أخلاقهم الفروسية تمنعهم من التنعم بتلك اللذة غصباً.كل هذا الكلام أوحى لنا به عنترة حين قال:

إِنْ تُغْدِفي دُونِي القِناعَ فإِنَّنِـي
طَـبٌّ بِأَخذِ الفَارسِ المُسْتَلْئِـمِ


ومن ثم نأتي لفخره بنفسه الذي ابتدأه متحدياً الجميع بأن هذه المفاخر التي سيقولها حقيقية وأنه لايفتخر إلا بما فيه من طيب الصفات وذلك حين يقول:

أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـي
سَمْـحٌ مُخَالقَتي إِذَا لم أُظْلَـمِ
فإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ
مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ


وهنا يحكي عن أجمل صفات الفرسان وهي أن أخلاقهم مع أحبابهم سمحة فيها الكرم والطيبة، ولكنهم مع يعاديهم أو يظلمهم شديدي البأس والظلم ومن يظلمهم يُرونه ظلماً مرًّا طعمه مثل طعم العلقم.

بعد ذلك افتخر بأن العظمة صفة راسخة فيه ، فهو حتى وهو يشرب الخمر لاتظهر منه إلا الصفات الطيبة ، فالخمر إذا كانت تظهر من الأنذال أسوأ صفاتهم ، فهي تظهر -حسب قوله- أجمل صفاته وهي الكرم :

فإِذَا شَـرَبْتُ فإِنَّنِي مُسْتَهْلِـكٌ
مَالـي وعِرْضي وافِرٌ لَم يُكلَـمِ
وإِذَا صَحَوتُ فَما أَقَصِّرُ عنْ نَدَىً
وكَما عَلمتِ شَمائِلي وتَكَرُّمـي


ومن ثم نأتي للميدان الذي لايستطيع أحداً أن يغلب عنترة في وصفه ؛ وهو وصف الحرب وكيفية قتل الأبطال وحالتهم عند لقائهم مع الموت على يد عنترة، ولانزال نذكر تلك الأبيات التي تعلمناها في المدرسة والتي جعلت الكثير من الشباب يتمنون رؤية مثل تلك المعارك التي وصفها عنترة ووصف أبطالها وأنصفهم فيها وهي قوله:

ومُـدَّجِجٍ كَـرِهَ الكُماةُ نِزَالَـهُ
لامُمْعـنٍ هَـرَباً ولا مُسْتَسْلِـمِ
جَـادَتْ لهُ كَفِّي بِعاجِلِ طَعْنـةٍ
بِمُثَقَّـفٍ صَدْقِ الكُعُوبِ مُقَـوَّمِ
فَشَكَكْـتُ بِالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيابـهُ
ليـسَ الكَريمُ على القَنا بِمُحَـرَّمِ
فتَـركْتُهُ جَزَرَ السِّبَـاعِ يَنَشْنَـهُ
يَقْضِمْـنَ حُسْنَ بَنانهِ والمِعْصَـمِ


فهو يصور لنا فارساً مدججاً بالسلاح لاينقصه منه شيء ، وهو من القوة والبأس بحيث كره الكماة الأبطال منازلته ، وهذا الفارس لايثنيه عن هدفه شيء فهو لايهرب ولايستسلم. ولكن إن كره الكماة نزاله فعنترة لم يكره ذلك بل تكرم على ذلك الفارس بالذي بخل الأبطال عن إكرامه به وهي طعنة عاجلة برمح ٍ قوي مستقيم، فقص بذلك الرمح ثيابه التي هي الدرع وألحق بها روحه ، وهذا الشخص وإن كان كريماً عظيماً فالحرب لاتمييز عندها فالكل فيها معرض للموت العظيم والحقير، ثم نتوقف ونعجب لتلك اللحظات التأملية في الحرب التي تلوح لنا في عد من أبيات عنترة فهو يتوقف ليتأمل في حال ذلك الفارس وكيف تناوشته السباع وأكلت أعضاءه دون تقدير لعظمته فالجميع يتساوون عند الموت.
ثم يعود عنترة لوصف بطل آخر قتله وفتك فروج درعه السابغة قتكشفت له عن بطل يحمي غواليه مشهور في الحرب، وأجمل ماأعجبني في وصفه لهذا البطل هو ذلك الوصف الذي استعار فيه صفة من صفات الأسد لهذا البطل فكما يُبرز الأسد أنيابه عندما يريد قتل فريسته ليبث الرعب في قلبها ، فكذلك هذا البطل الذي نازل عنترة أبرز أنيابه ليس ابتساماً لعنترة ولكن تكشيراً لكي يُرهبه، ولكن تُرهِب من أيها البطل؟! فهذا عنترة الذي آخر مايذكره من بعد أنيابك هي تلك الدماء -التي تشبه في لونها العظلم- التي طلى بها في ذلك النهار أصابعك ورأسك :

لـمَّا رَآنِي قَـدْ نَزَلـتُ أُريـدُهُ
أَبْـدَى نَواجِـذَهُ لِغَيـرِ تَبَسُّـمِ
عَهـدِي بِهِ مَدَّ النَّهـارِ كَأَنَّمـا
خُضِـبَ البَنَانُ ورَأُسُهُ بِالعَظْلَـمِ


وتخون عنترة صفاته الفروسية وكلنا بشر نخطىء ، فينزل إلى مستوى الشباب اللعوبين فيتحين اصطياد حبيبته بعيداً عن أهلها ، وتأتي جاريته الخبيثة لتقول له أن الفرصة قد حانت لتصيد شاتك.. ياعيباه ياعنترة عسى ماتكون غلطت بس!

ياشَـاةَ ما قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لـهُ
حَـرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَها لم تَحْـرُمِ
فَبَعَثْتُ جَارِيَتي فَقُلْتُ لها اذْهَبـي
فَتَجَسَّسِي أَخْبارَها لِيَ واعْلَمِـي
قَالتْ : رَأيتُ مِنَ الأَعادِي غِـرَّةً
والشَاةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُو مُرْتَمـي
وكـأَنَّمَا التَفَتَتْ بِجِيدِ جَدَايـةٍ
رَشَـأٍ مِنَ الغِـزْلانِ حُرٍ أَرْثَـمِ


ونعود مع المجال الذي لايضاهي أحد عنترة في وصفه ألا وهو الحرب وهو هنا يكون واضحاً ومبدعاً إلى أقصى درجة ، وهذا المقطع من أجمل مقاطع القصيدة التي تجلب لنا أجواء الحرب وتخيلها لنا وفيه يقول:

ولقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بِالضُّحَى
إِذْ تَقْلِصُ الشَّفَتَانِ عَنْ وَضَحِ الفَمِ
في حَوْمَةِ الحَرْبِ التي لا تَشْتَكِـي
غَمَـرَاتِها الأَبْطَالُ غَيْرَ تَغَمْغُـمِ
إِذْ يَتَّقُـونَ بـيَ الأَسِنَّةَ لم أَخِـمْ
عَنْـها ولَكنِّي تَضَايَقَ مُقْدَمـي
لـمَّا رَأيْتُ القَوْمَ أقْبَلَ جَمْعُهُـمْ
يَتَـذَامَرُونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مُذَمَّـمِ
يَدْعُـونَ عَنْتَرَ والرِّماحُ كأَنَّهـا
أشْطَـانُ بِئْـرٍ في لَبانِ الأَدْهَـمِ
مازِلْـتُ أَرْمِيهُـمْ بِثُغْرَةِ نَحْـرِهِ
ولِبـانِهِ حَتَّـى تَسَـرْبَلَ بِالـدَّمِ


وأعجب والله من تصويره هنا للحرب ، فبعد أن تحدث عن وصية عمه له التي كما يتبادر إلى الذهن ربما كانت عن الصبر في الحرب وعدم الهيبة وبث العرب في الأعداء، أقول بعد أن مر سريعاً وقال أنه حفظ الوصية ، ذكر حال الفرسان في المعركة فمع أهوالها وشدتها يشد الأبطال شفاههم فتتقلص لتبدي وضح الفم وهي الأسنان، ولكن مع أهوال هذه المعركة فإن الأبطال لايصرخون من هولها ، وإنما يكون أقوى شكواهم التغمغم ، ووسط هذه الأهوال فإن فرسان القبيلة يقدمون عنترة لأنه أشجعهم ففي الحرب لابد من فارس جريء يتقدم حتى يُشجع من معه من الفرسان للمشي خلفه ، ولكن مع أن عنترة يتقدم بدون أن يَخِم-أي يجبن-لكن تقدمه يكون بطيئاً فليست هذه نزهة وإنما حرب شرسة كل شبر تريد أن تتقدمه فيها لابد أن تحسب فيه حسابك فأنت مستهدف . ثم يتطرق لصورة الالتحام الهائل فلمَّا أقبلت جموع الأعداء وهم يتذامرون-يحثون بعضهم على القتال- ورآهم عنترة كرَّ عليهم -أي هجم-وقومه يشجعونه على ذلك ويهتفون باسمه ، وبينما هو يشنف أذنه بذلك النداء الذي يتلذذ الأبطال مثل عنترة عند سماعه إذا بالرِّماح التي شبها عنترة بحبال البئر تضرب صدر حصانه الأسود " الأدهم" ،ويكر عنترة عليهم برفقة حصانه وهم يضربون الحصان راجين أن يسقط فيتسربل بالدم( أي كأنه لبس ثوباً من الدم لكثرة مانزف منه)، وهنا نأتي للصورة الشعرية التي وقف عندها الأدباء كثيراً، وهي ذلك الحوار الجميل بينه وبين حصانه الأدهم:

فَـازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنا بِلِبانِـهِ
وشَـكَا إِلَىَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ
لو كانَ يَدْرِي مَا المُحاوَرَةُ اشْتَكَى
وَلَـكانَ لو عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِـي


فوسط هذه الأهوال يلتفت لحصانه ويسمع شكواه التي هي ليست عبارة عن كلام ، بل هي دموع وتحمحم - وهو صوت يصدره الحصان عند التعب - ومن قال لنا إخوتي أن الحيوانات ليس لها دموع ؟! وماذا نسمي إذن تلك الدموع التي رآها عنترة في عيون حصانه الأدهم؟!
لكن ألا تعجبون معي لالتفات عنترة للحصان وتعابيره وسط تلك الأهوال؟ أما أنا فلا أعجب لأنني أعلم من حياة عنترة أن أعظم صديق له في حياته كلها كان هذا الحصان، فقد كان يطعمه مالا يطعم أهله أحياناً.ولم لا يكون كذلك وعنترة عاش مع الحصان آماله وآلامه؟! ولم لايكون كذلك وهو كان أول الدرجات التي صعدها عنترة في طريق الحرية؟! وكم اشتكت زوجة عنترة من هذا الحصان وأنه يأكل من الزاد مالاتأكله هي...فماذا كان يقول لها عنترة؟!:

لا تذكري مهري وما أطعمتهُفيكونُ جلدكِ مثلَ جلدِ الأجربِإنَّ الغَبُوقَ لهُ وأنْتِ مسوءَة ٌفتأَوَّهي ما شئْتِ ثمَّ تحَوَّبيكذَبَ العَتيقُ وماءُ شنٍّ باردٍإنْ كُنتِ سائِلَتي غبُوقاً فاذهبيإنَّ الرِّجالَ لهمْ إليْكِ وسيلَة ٌإنْ يأْخذوكِ تكحَّلي وتخضَّبيويكُونُ مرْكبُكِ القَعُودَ ورَحْلهُوابنُ النَّعامَة ِ يَوْمَ ذلكَ مَرْكبيإِنيَّ أحاذرُ أنْ تقولَ ظعينتيهذَا غُبارٌ ساطعٌ فتَلَبَّبوأنا امْرُؤٌ إنْ يأْخذوني عَنوَة ًأقرنْ إلى شرَّالركابِ وأُجنبِ

نعم لاتقارني نفسك مع هذا الحصان في نوعية الطعام! فلئن لم تنتهي لأجعلن جلدك مثل جلد الأجرب من كثرة الضرب . سيكون اللبن الطيب له رغماً عنكي! فاصرخي كما شئتي فلاطعام لكي عندي سوى التمر القديم والماء البارد! ومم تخافين أنتي إذا جاءت الحرب فكل ماعليكي فعله أن تتكحلي وتخضبين نفسك بالحناء حتى يرغب فيكي أحد هؤلاء المعتدين ويكرمك وتركبين معه القعود، أمَّا أنا فلن يكون لي سوى ظهر هذا الحصان السريع الذي تذمينه، إنني ياهذه أحاذر أن تقول لي إحدى النساء الذين يحتمون بي " هذا غبار المعركة قد أقبل فاستعد"،
ولعلك لا تجهلين أنني بطل مستهدف ومطلوب بثارات فإن استطاع هؤلاء الأعداء أن يأخذوني فسيربطونني إلى جانب أسوأ دابة عندهم ويسحبونني حتى الموت . نعم والله لك العذر ياعنترة فالحصان هذا هو كل شيء عندك فهو أولاً وكل شيء ثانياً! فماذا تستفيد لو قصرت في طعامه وخصصت زوجتك بأحسن الطعام ؟! فسيأتي ذلك اليوم الذي لايستطيع فيه هذا الحصان أن يحملك ومن ثم ستسبى زوجتك ويقتلونك؟!

وكأن عنترة ياإخواني نفذ بقوة بصيرته في هذه الأبيات إلى نهايته، فهذا ماحصل في نهاية حياة عنترة فقد قيل أن سبب مقتله في إحدى معارك عبس مع طيئ أن حصانه لم يقوى على حمله فسقط عنه وتلاحق عليه فرسان طيئ فقتلوه لتنتهي بذلك حياة اسطورة عربية قل أن يكون في التاريخ مثلها .


وللحديث بقية عن نماذج أخرى من شعر عنترة ، وحول الأساطير التي حيكت حول عنترة وأصل هذه الأساطير.


الموضوع الأصلي: روائع عنترة الفارس عاشق الحرية | | الكاتب: ثامر ضيف الله | | المصدر: شبكة بني عبس




Facebook Twitter
ثامر ضيف الله
مشاهدة الملف الشخصي
ابحث عن المزيد من مشاركات ثامر ضيف الله
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 16-08-2008, 04:52 AM
يوسف العبسي
عضو فضي
الصورة الشخصية لـ يوسف العبسي
رقم العضوية : 2064
تاريخ التسجيل : 27 / 8 / 2007
عدد المشاركات : 818
قوة السمعة : 18

يوسف العبسي بدأ يبرز
غير متواجد
 
الافتراضي
شكرا علي القصه الرائعه

تقبل مروري


توقيع يوسف العبسي

اشرب من الدله لو كلها سم ......ما هز فنجالك ولا اقول كافي
مادام من يمناك تقولي سم......بسم الله اشرب وكل سمك عوافي

http://www.shbab1.com/2minutes.htm

ALFohrr@hotmail.com

 

 



Facebook Twitter
يوسف العبسي
مشاهدة الملف الشخصي
ابحث عن المزيد من مشاركات يوسف العبسي
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 16-08-2008, 02:46 PM
ثامر ضيف الله
عضو فعال
الصورة الشخصية لـ ثامر ضيف الله
رقم العضوية : 4282
تاريخ التسجيل : 29 / 5 / 2008
عدد المشاركات : 224
قوة السمعة : 18

ثامر ضيف الله بدأ يبرز
غير متواجد
 
الافتراضي
اخوي يوسف العبسي يعطي الف عافيه على المرور تحيتي لكم


Facebook Twitter
ثامر ضيف الله
مشاهدة الملف الشخصي
ابحث عن المزيد من مشاركات ثامر ضيف الله
موضوع مغلق

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف)
 

خيارات الموضوع
عرض نسخة للطّباعة عرض نسخة للطّباعة
ابحث بهذا الموضوع

بحث متقدم
قوانين المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاح
الابتسامات متاح
كود [IMG] متاح
كود HTML مغلق

قوانين المنتدى
إنتقل إلى

مواضيع مشابهة
الموضوع الكاتب القسم الردود آخر مشاركة
أمير منطقة القصيم يزور الفارس عنترة بن شداد في جناح القصيم بالجنادرية 27 عادل العويمري منتدى اخــبار القبيلــة 5 10-02-2012 12:38 AM
من ديوان عنترة بن عمرو بن شداد للشاعر عنترة بن عمرو بن شداد احمدابوالدوش منتدى الشـــعــــر 2 29-06-2010 05:08 AM
كيف مات الفارس عنترة بن شداد .. الرواية الاقرب والاصح .. ولله تعالى اعلم بدر عبدالله قسم الفارس (عنترة بن شداد) 19 16-03-2008 11:38 PM
(زارَ الخيالُ خيالُ عَبلَة َ في الكَرى) .. من روائع الفارس عنتره بن شداد بدر نوران قسم الفارس (عنترة بن شداد) 10 24-02-2008 02:04 PM





 شبكة بني عبس ساحات للحوار الهادف الاجتماعي
فعلى كل شخص تحمل مسئولية نفسه إتجاه مايقوم به من مواضيع وردود والالتزام التام بقوانين

الموقع الذي تنص على ان كل مايطرح يكون اجتماعيا وهادف مبني على

التعاون والتكاتف لما يخدم قبيلتنا وديننا ووطننا الغالي وكل الاوطان  شعارنا . لاعنصرية ولا كراهية


الساعة الآن +4: 03:08 AM.

شبكة بني عبس - الأرشيف - للأعلى


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
هذا المنتدى يعمل على نسخة في بي بلص


أقسام الموقع

  • قريبا
  • رابط نصى
  • رابط نصى
  • رابط نصى
  • رابط نصى
  • رابط نصى

نبذة عنــــا

جميع الحقوق محفوظة شبكة بني عبس