الرحالة الكبير في جبال وصحراء المملكة :
الحق الذي لا مرية فيه أنه بعد وفاة شيخه ابن باز أصبح عالم الرياض الأكبر , ومفتي الناس , ومعلم الناس الخير , الشيخ الذي يتترس الشباب الأقوياء بفتاواه ومواقفه ويكون أولهم في الصف , صاحب الرحلات الصيفية الوعظية والإرشادية الطويلة جداً .
تراه وهو شيخ كبير تتناوشه الأمراض , يسافر في كل صيف يطوف المملكة من شرقها إلى غربها , ومن الجنوب إلى الشمال , يقطع الآف الكيلومترات , يبحث عن الناس في المدن , أو في البوادي , يبحث عنهم في مدينة عالمية , أو قرية ساحلية , أو مجموعة تعيش في الجبال بعيداً عن الحضارة , لا يهمه ذلك , المهم أنه سيجد بشراً يتحدث معهم , سيجد أقواماً يرشدهم إلى الله, سيجد أناساً يسألونه فيجيب .
يجلس بين الناس بكل حب وود ونقاء , يبين لهم أحكام الشريعة بوضوح ويسر , يراعي ظروفهم , ويتكلم بما يناسب عقولهم , يتكلم ولا يمل هو من الحديث المكرر فهو يتكلم في هذه القرية , ويعيد الموضوع عند جارتها , وهكذا بدون ملل , ربما شرح لهم كتاباً وأقام أياماً , وربما عقد لهم دورة علمية مكثفة كل سنة , يكتب لهم التزكيات والتوصيات , ويزور مشاريعهم الخيرية ويجلس مع أعضائها , ويلتقي بالقضاة وطلبة العلم والدعاة الذين يحرصون أن يروه ويجلسون معه , مع أنه لا يحمل صفة رسمية للزيارة , بل يسبق زيارته أحياناً تنسيق مع رجال الدعوة هناك , لا يدخل قصور المسئولين والأمراء في المناطق إلا نادراً , تراه يسكن في منزل متواضع أو فندق عادي , يظنه الإنسان يستعجل نشاطه قبل عجزه , ويمارس رياضة مع روحه وجسده ليرتقي بها للكمالات .
وكل هذا يفعله بدون مقابل مالي أو تكليف رسمي , والأعجب أنه يسافر بدون أن يتنقل في طائرة ليس لأنه يحرمها , بل لأنها لن تدخل القرى والبوادي التي يريدها , فهو يتنقل بسيارته في لهيب الحرّ حيث صيف الجزيرة العربية اللافح , يتنقل مع رفقة من طلابه , تارة في مدينة جبلية أو في مدينة ساحلية , من مكة إلى جدة والطائف والباحة وأبها , ثم تراه يسافر إلى الساحل الشرقي لدورة علمية مكثفة , ثم يعود إلى المدن النجدية القائمة على الصحاري اللاهبة , ثم شمال الجزيرة مروراً بالمسجد النبوي , ويستمر في الرحلة قرابة الشهرين من كل عام , وهو قد جاوز السبعين من عمره .
ولقد حدثني عدد كبير من الدعاة عن القرى النائية التي دخلها , ولقد رأيته بنفسي أيضاً يدخل مناطق وقرى بعيدة عن مواطن التجارة والمطارات والأسواق , وهذه القرى لم يزرها داعية بحجم أحد من طلابه فكيف بمثله , فتراه بين الجبال في قرى تهامة , وفي سهول الأودية , وفي قرى الشمال حيث الصحراء , وهو في غاية النشاط والحرص على التعليم .
يتغير رفقائه في الرحلة أحياناً , فمن ذا الذي يستطيع أن يصمد كما يصمد ؟ , ومن ذا الذي يتحمل ويطيق ما يتحمل ؟ .
إنه يحمل قلباً نقياً , قلباً ينبض بحب الإسلام , قلباً لم يزل يحب الناس ويأنس بهم , قلباً يحب الإرشاد والوعظ والتعليم ونفع الناس , إنه يبحث عن الناس ولا يكتفي بمجرد الكلام , يبحث عنهم في المساجد والتجمعات .
حدثني أحد خواص طلابه ممن يعمل مدرساً في إحدى الجامعات قائلاً :
قررت يوماً أن أصحبه في محاضرة خارج الرياض بمائة وخمسين كيلاً , فاتفقت مع سائقه الذي هو من طلابه عادة , فصليت العصر مع الشيخ في المسجد يوم الأربعاء , فألقى درسه في الفرائض وشرح الرحبية , ثم انطلقنا قبل المغرب وصلينا قي أطراف الرياض , ولازلنا نسير وهو يملأ السيارة علماً وحكمة حيث كنا اثنان معه فقط , وربما سمع شريطاً لبعض محاضرات طلابه أو من في مستواهم , يقول تلميذه هذا ثم استأذنته في قراءة قطعة من كتاب زاد المستقنع , فأذن لي , فكان يشرح لي كما يشرح في المسجد أو سع , وكنت أناقشه في كل مسألة , وهو لا يتململ من ذلك بل يفرح بذلك , فلما قارب وقت العشاء وصلنا للمدينة التي سيلقي فيها المحاضرة وكانت بعد العشاء , فألقى محاضرته وهو في غاية النشاط والقوة , يقول محدثنا فغلبني النعاس من وعثاء السفر , ولكني تمالكت نفسي , ثم انطلقنا بعد المحاضرة لمناسبة دعي إليها في هذه المدينة , فحضرها وألقى عليهم بعض النصائح والمواعظ , وأجاب على أسئلتهم , وفوجئت أن المحاضرة كانت عبارة عن درس شهري يلقيه عليهم من سنين بانتظام .
قال صاحبنا: ثم قفلنا عائدين للرياض , فإذا هو يحمل في جيبه شريطاً تسجيلاً أهداه له أحد الناس بعد المحاضرة فستأذن منا لتشغيله وسماعه , وبعد سماعه وفراغه عدنا لحديثنا الشيق وسماع الفوائد منه , ووصلنا للرياض في تمام الساعة الثانية ليلاً , وأوصلنا الشيخ لسكنه , يقول صاحبنا وذهبت لأنام ولكنني فوجئت بأن درس الخميس لابن جبرين بقي عليه نحو ثلاث ساعات فقط ويبدأ , وسألت من معي هل أقام درسه اليوم الخميس فكانت المفاجأة أنه أقام الدرس واستمر مع طلابه وأحبابه يشرح لهم ويعلق إلى قرابة الساعة التاسعة صباحاً , ثم أقام دروسه في ذلك اليوم كالمعتاد. .إنتهى كلام تلميذه الحبيب .
كان بإمكانه أن يبرر لنفسه بكبر سنه وتأثير السفر عليه وعلى صحته , أو يبرر لها خشونة صوته , أو توفر القنوات الفضائية ذائعة الصيت التي كانت تستضيفه وتذيع حلقاته ودروسه , لكنه لم يفعل ذلك أبداً .
فظهر في القنوات حيث القوة الإعلامية وسعة الانتشار , وظهر في حلقات المساجد حيث الشباب المتوضئ الجميل الطلعة , وظهر في جلسات البيوت حيث الخصوصية وحرية الحوار , وظهر في مجالس الملوك والوجهاء حيث الأبهة والعظمة , وفي كل ذلك كان هو ذلك الذي يعرفه الناس , فلم تتغير نبرته , ولم يتغير موقفه , ولم تتغير رقته وبساطته.
المعلم المحتسب الحليم :
بن جبرين هكذا يقال اسمه اختصاراً , عالم ٌ فريد الطراز , يلقي دروسه على طريقة الشرح والتقرير و التحرير غالب , اليوم ويشرح في اليوم الواحد كتباً وفنوناً تحتاج لتحضير وتأمل ومراجعة , لكنه واسع الإطلاع , سريع التحضير , يستحضر الأدلة والنصوص كما يستحضر الهواء لرئتيه .
ابن جبرين يجمع بين المعرفة بالنصوص الشرعية , ومعرفة المذاهب الفقهية , وبين الربط والتحليل واختيار القول الصحيح حتى لو خالف ما عليه الناس , ففتواه يأنس بها طلبة العلم لما فيها من القوة العلمية , ففيها الجمع بين أقوال الفقهاء القدامى , مع دقة الفقه والفهم للمسائل المحدثة المعاصرة التي يكثر فيها الخلاف والنزاع .
فتاواه سبق بها علماء عصره , و لذلك رغم تدريسه لمذهب الحنابلة فهو متوسع في الإطلاع على الحديث والأدلة , بل هو أميل لمذهب المحدثين , فكانت فتاواه تحمل المعاصرة مع هيبة الدليل , فلم يكن ليرضي العامة بفتاواه أو يساير الواقع ويبرر للناس فعلهم , ولكنه يبحث عن الدليل ويجمع أقوال الفقهاء فيكون قوله أشبه ما يكون فيصلاً قوياً عند النزاع , فيحترم طالب العالم رأيه لأنه مبني على دليل وليس هوى أو مجاراة لما يطلبه المستمعون .
عرفه الناس قبل فترة طويلة بأنه صاحب الفتاوى الجريئة التي ربما تخالف بعض أراء مشايخه أو المذهب الحنبلي , ولكنه لم يكن ليفتي بالرأي أو إرضاء للجمهور أو العامة بل كان الحق مذهبه والدليل قائده وهاديه .
يحب ويأنس التدريس في المساجد , وهو متعته وغايته في الحياة , فالمسجد هو منبع قوة المسلمين , ومكان اللقيا فيه هو سمت الصالحين وشعار المؤمنين , فلم يكتف بالظهور الإعلامي القوي, أو ينتقل للمسارح والقاعات الفخمة فقط , بل جمع بين الحسن كله , ولكنه لا يقدم على المسجد شيئاً , حيث تؤدى الصلوات وتتنزل الرحمات وتخشع القلوب في بيوت الله تعالى .
فهو يجلس في حلقته يومياً ساعات يُدّرس , يجلس على كرسي متواضع مرتفع قليلاً ليراه الطلاب الكثيرون , طلابه فيهم القضاة وفيهم أساتذة الجامعات وفيهم أصحاب المناصب الرفيعة وفيهم شباب في بداية الطلب من طلاب الجامعات وغيرهم وهم من جنسيات مختلفة , وبقدرة فائقة يمنحهم جميعاً حناناً واحداً ومحبة صادقة وهم يبادلونه الشعور بالمثل .
يلتف الطلاب حوله كفراشات تجمع الرحيق الجميل , يعلمهم ويفهمهم , لا يمل من أسئلتهم واستشكالاتهم , يسهل لهم المعلومات ولا يعقدها , يحاول إيصال الفكرة بأقرب طريق فيضرب لهم الأمثلة , يستشهد بالأشعار التي يحفظ منها المئات الكثيرة ليشحذ أذهانهم , ويلقي عليهم الأسئلة ليختبر جودة فهمهم , يدرس لطلابه الكتب المنوعة في العلوم , فهو مُعلمُ للحديث والمصطلح , ومُعلمٌ للفقه وأصوله , ومُعلمٌ للعقيدة الصافية النقية , وُمعلمٌ للغة العربية نحوها وصرفها , وهكذا تنوعت معارفه وقدرته , لكنها لم تكن عن تشبع بما لم يعط , ومحاولة لإظهار العلم , بل هي قوة علمية شهد له بها كبار شيوخه , وأذنوا له في التدريس والتعليم .
يعتني بعقائد طلابه , يعلمهم عقيدة الإسلام النقية ويحذرهم من البدع , ربما لحقه تجريح وردود على بعض ذلك في بعض الوسائل الإعلامية لكنه لا يبالي , فصفاء عقائد المسلمين أولى في نظره من كل شيء , فماذا ينفع الطالب علمه إذا فسدت عقيدته , أو شك في المنهج الذي يتبعه , أو ضعف في بيان الحق الذي ينجيه من النار يوم القيامة , وإذا رأى الطالب شيخه يعتني بالعقيدة ترسخ ذلك في مستقبل حياته , وترسم ذلك في طريقة تعليمه لمن سيعلمهم بعد موت شيخه .
يجتمع الطلاب بعد الدروس حوله , فيكتب لهذا تزكية , لهذا شفاعة , ويجيب سؤال أحدهم , يبستم ويضحك مع صغيرهم وكبيرهم , يأخذ بأيديهم ويحثهم على فعل الخيرات , وعلى نشر الدين وطلب العلم , يخرجون فينهاهم عن التعلق بشخصه فهو يمنعهم من تقبيل رأسه ويده , ولطالما ردّ أناساً ودفعهم بعيداً عن جسمه وهم يرغبون في تقبيل رأسه كما هي العادة المتبعة في نجد عند مقابلة أهل العلم, فلا يسمح بتقديسه والتمسح به ويغضب من ذلك ولايرضاه .
يدرس أحياناً في بيته , وأحياناً في المسجد , وفي بعض السنين ضاق البيت بالطلاب فنقل الدرس للمسجد , هكذا يحب أن يكون معلماً .
يتكلم كثيراً في دروسه عن آداب وأخلاق طالب العلم , يسرد عشرات الأبيات في العلم وفضله , يتكلم عن الصفا ت الخلقية والأخلاقية , بدون أن يكون في ذلك تشبه بالصوفية , أو بالخيال الذي يجعل طالب العلم جسداً مهاناً أمام الشيخ , يسجل الطلاب هذا الكلام بالمسجلات , ينسخونه , يتداولونه بينهم , ثم يطبع مفرقاً, يصبح كلامه أنموذجاً عملياً غير مبالغ فيه , فليس مغرقاً في الخيال , ويناسب الواقع والحياة المعاصرة , ويتلائم بين متطلبات الأسرة والجسد والأقارب , وبعض المناهج التي يذكرها غيره تكاد تغرق في المثالية , وترغب في قطيعة الأرحام وإهمال الأسرة القريبة .