إذا كشفَ الزَّمانُ لك القِناعا
ومَدَّ إليْكَ صَرْفُ الدَّهر باعا
فلا تخشَ المنية َ والتقيها
ودافع ما استطعتَ لها دفاعاً
ولا تخترْ فراشاً من حريرٍ
ولا تبكِ المنازلَ والبقاعا
وحَوْلَكَ نِسْوَة ٌ ينْدُبْنَ حزْناً
ويهتكنَ البراقعَ واللقاعا
يقولُ لكَ الطبيبُ دواك عندي
إذا ما جسَّ كفكَ والذراعا
ولو عرَفَ الطَّبيبُ دواءَ داء
يَرُدّ المَوْتَ ما قَاسَى النّزَاعا
وفي يوْم المَصانع قد تَركنا
لنا بفعالنا خبراً مشاعاً
أقمنا بالذوابل سُوق حربٍ
وصيَّرنا النفوس لها متاعا
حصاني كانَ دلاّل المنايا
فخاض غُبارها وشَرى وباعا
وسَيفي كان في الهيْجا طَبيباً
يداوي رأسَ من يشكو الصداع
أَنا العبْدُ الَّذي خُبّرْتَ عَنْهُ
وقد عاينْتَني فدعِ السَّماعا
ولو أرْسلْتُ رُمحي معْ جَبانٍ
لكانَ بهيْبتي يلْقى السِّباعا
ملأْتُ الأَرضْ خوْفاً منْ حُسامِي
وخصمي لم يجدْ فيها اتساعا
إذا الأَبْطالُ فَرَّت خوْفَ بأْسي
ترى الأقطار باعاً أو ذراعا
وظل عنترة في جميع أيام عبس ومعاركها درة تاجهم وبطلهم المقدم ، وكانوا إذا احتاجوا في معاركهم لأداء أمر عظيم ولوا عنترة الأمر فكفاهم إياه ، فكم من بطلٍ من أعدائهم قتله عنترة ، وكم من صراعات شرسة ومبارزات كان المقدم فيها، بل قيل أنه في حرب لعبس ضد قبيلة تميم انهزمت عبس هاربة من تميم فوقف عنترة مع عدد بسيط من فرسان عبس الأشاوس يناضلون تميم حتي تتمكن قبيلة عبس من الهرب وبالفعل حموا قومهم ولم يصب منهم أحد. وفي ذلك قال عنترة أروع قصيدة له بعد المعلقة المشهورة وهي التي يقول فيها:
أفَمِنْ بكاءِ حمامة ٍ في أيكة ٍ
ذرفتْ دموعكَ فوق ظهر المحملِ
كالدرِّ أو فضض الجمانِ تقطعت
منهُ عَقائِدُ سِلْكهِ لم يُوصلِ
لما سمعتُ دعاءَ مرَّة إذ دعا
ودُعاءَ عبْسٍ في الوَغى ومُحلِّلِ
ناديتَ عبساً فاستجابوا بالقنا
وبكلّ أبيضَ صارمٍ لم يَنْجَلِ
حتى استباحوا آلَ عوفٍ عنوة ً
بالمَشْرَفيِّ وبالوشيج الذُّبَّلِ
إني امرؤُ منْ خير عبسٍ منصباً
شطري وأحمي سائري بالمنصلِ
إنْ يُلحَقُوا أكْرُرْ وإنْ يُسْتلحَمُوا
أشددْ وإنْ يلفوا بضنكٍ أنزِلِ
حين النزول يكونُ غاية َ مثلنا
ويَفرُّ كلُّ مُضَلَّلٍ مُستَوْهِلِ
ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلهُ
حتى أنال به كريمَ المأكلِ
وإذا الكَتيبة ُ أحْجَمتْ وتلاحظَتْ
ألفيتُ خيراً منْ معمَّ مخولِ
والخيلُ تَعلمُ والفَوارسُ أنني
فرَّقْتُ جمعهم بطعنة ِ فيصلِ
إذ لاَ أبادرُ في المضيق فوارسي
ولاَ أُوكلُّ بالرعيل الأوَّلِ
ولقد غدوت أمامَ راية ِ غالبٍ
يوْمَ الهياج وما غَدَوْتُ بأَعْزلِ
بكَرتْ تخوفني الحتوفَ كأنني
أَصْبحْتُ عن غَرض الحَتوفِ بِمَعْزِلِ
فأَجَبْتُهَا إنْ المَنيَّة مَنْهلٌ
لا بدَّ أنْ أُسْقَى بكأْس المنْهلِ
فاقني حياءك لا أبالكِ واعلمي
أني امرؤ سأموتُ إنُ لم أقتلِ
إنَّ المنيَّة لو تُمثَّلُ مُثـِّلتْ
مثلي إذا نزلوا بضنك المنزلِ
والخيلُ ساهِمة ُ الوجُوهِ كأَنَّما
تسقى فوارسها نقيع الحنظلِ
وإذا حملتُ على الكريهِة لم أقلْ
بعد الكريهة ِ ليتني لم أفعلِ
مع معلقة عنترة:
- نتوقف اليوم قليلاً مع أجمل النماذج الشعرية لعنترة وعلى رأس هذه النماذج معلقته المشهورة التي أبدع فيها أيما إبداع، وقد قيل أنه كان قبل أن يقولها لايقول إلا المقطعات الشعرية حتى أغضبه أحد بني عبس من الذين كانوا يحسدونه على المرتبة العظيمة التي وصل إليها على مستوى قبيلته بل وعلى مستوى الجزيرة العربية بأجمعها فقد طبق ذكر بطولاته الآفاق، فقد قال له ذلك الحاسد في مشاحنة كلامية بينهما: ياأسود الوجه يا ابن الجارية والله إن العرب كلها لتقول الشعر وأنت ياعبد لاتحسن الشعر فما أنت من العرب؟ فقال له عنترة: والله إن الناس ليترافدون الطعام ، فما حضرت أنت ولاأبوك ولا جـَدُّكَ مَرْفـَدَ النـَّاس قـط ُّ ، وإن الناس ليُدعـَونَفي الغارات فيُعرفون بتسويمهم ، فما رأيتُك في خيلٍ مُغِيرَةٍ قطُّ ، وإنَّ اللَّبس ليكون بيننا فما حضَرْتَ أنت ولاأبوك خُـطـَّة فـَصْل ، وإنـَّما أنت فَقْعٌ بَقـَرْقـَر. وإنـِّي لأحتـَضِرُ البأس ، وأوفي المغنم ، وأعِـفُّ عن المسألة ، وأجُودُ بما مَلَكـَت يدِي، وأمـَّا الشـِّعر فستعلم. ثـُمَّ لم يعـُد إلى مجلسه ذلك إلا وقد قال معلقته.
نعم إخوتي لم يكن عنترة من أهل المقال فقط بل كان قوَّالاً فعـَّالاً . يربط القول بالفعل ، ولم يكن مثل أكثر أهل زماننا يقولون من الكلام مالو طبَّقوا عُشرَه لأصبح الكون كله ملكأً لهم ، لكنك تجدهم بعد هذا الكلام عبيداً للكون كله. نعم إخوتي لو كان عنترة مثل أهل زماننا لقال لنفسه : والله لقد أفحمت الرجل ولن يعود لها بعد هذا. لكن عنترة كان لايرضى أن يعاب بشيء وحين كشف له شخص - حتى ولو كان عدُوًّا له - عن عيبٍ من عيوبه فإنه ظلًّ يُفَـكِّر كيف يُصْلِح هذا العيب ، وبذل كل جهده حتى استطاع أن يُصلحه . ألاّ يستحق مثل هذا الشخص أن يتوّج بأرفع وسام على مدى الدهور؟! نعم إخوتي نال عنترة ذلك الوسام ! أتعرفون ماهو ؟!
لقد حاز عنترة على إعجاب العرب كلهم وعلى رأسهم أعظم شخص في العالم منذ خلق الله الأرض ومن عليها! نعم إخوتي لقد حاز عنترة على إعجاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال عنه:ما وُصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.
نعم لقد استحق هذا العظيم عالي الهِمِّة هذا الثناء؟ فماهو إلا أن يتنبه لأي عيبٍ فيه حتَّى يسعى لإصلاحه. وماهي إلا كلمات قدح بسيطة لاتضر عظيماً مثله إلا ويخرج لنا بقصيدة عدِّتها العرب في معلقاتها، بل وأفردها دون غيرها من المعلقات باسم خاص فقالوا عنها " المُذ َهَّبة "، وقد استحقت هذه المعلقة كل هذا الثناء لأنها احتوت مزايا المعلقات بل وزادت عليها، ففيها الافتتاحية الطللية الجميلة، وفيها الوصف البديع ، وفيها الفخر الصادق فعنترة لم يفتخر إلا بأفعاله، فهو لم يهول أفعاله مثل أكثر الشعراء ، ولم يفخر بغيره فهنا في هذه المعلقة فخرٌ يندر أن نرى مثله، وفيها عاطفة غريبة تحدث عنها كثير من النقاد بين عنترة وحصانه فانظر إلى ذلك الحوار العاطفي الذي يتخيل عنترة أنه دار بين عنترة وحصانه، وفيها وصف عجيب لهذا الحصان وحاله في المعركة وهذا الوصف يزيد إعجابنا بعنترة وشجاعته ، فأنت تعجب لشخص يدخل معركة ويتفرغ ذهنه لمتابعة حركات فرسه وانفعالاته . إن شخصاً يخوض المعركة كأنها نزهة لحقيق أن يقال عنه أشجع الشجعان. كما التفت النقاد إلى أسلوب جميل كان عنترة من أوائل الشعراء الذين طرقوه ألا وهو" أسلوب الإنصاف مع الخصم " ولم يكن هذا فقط نابعاً من أخلاق عنترة الفروسية وحسب، بل كان نابعاً من ذكائه الأدبي فماذا ينفع إن قلت للناس أنك قتلت خصماً ضعيفاً . حينها سيقول كل الناس : وماذا في ذلك كل الناس في إمكانهم أن يفعلون مثلك؟! لكن عنترة أحب أن يعطي بطولته حقها الذي تستحقه ، فأنصف خصمه ليقدر الناس شجاعة عنترة بالقدر التي هي أهلٌ له. كما لانغفل أيضاً عن الأوصاف البديعة التي ذكرها عنترة في أعظم محبوبتين له ألا وهما: عبلة ، والحرب.
أما الآن فإلى نظرة إلى هذه القصيدة الرائعة التي لايقلل من روعتها إلا صعوبة بعض الألفاط فيها ، ولكن سنتلافى ذلك بالتطرق إلى الحديث عن بعض أبياتها الجميلة وشرحها شرح مبسط، عموماً سوف نلقي نظرات بسيطة على هذه القصيدة ثم نوردها كاملة. والبداية استعراض لمهارة البكاء على الأطلال كعادة الشعراء للجاهليين :
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَـرَدَّمِ
أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّـمِ
يَا دَارَ عَبْلـةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِـي
وَعِمِّي صَبَاحاً دَارَ عبْلةَ واسلَمِي
وأول مايلفت نظرنا هنا في هذه المعلقة بيت استغربت له استغراباً شديداً وهو قوله:
عُلِّقْتُهَـا عَرْضاً وأقْتلُ قَوْمَهَـا
زعماً لعَمرُ أبيكَ لَيسَ بِمَزْعَـمِ
فالغريب هنا أن عنترة يحكي أن قتالاً وقع بين قومه وقوم محبوبته التي هي عبلة . وإن كانت القصص تحكي لنا أن عبلة هذه ابنة عم عنترة فلم تحكي لنا أن قتالاً حصل بين عنترة وبني عمه ، لكن هذه الأبيات تجعلنا نجزم أن قتالاً مثل هذا حدث ، وربما كان هذا هو السبب الذي منعه من الزواج منها بعد أن وعده عمه بالزواج منها.
وثاني مانتوقف عنده هو بديع وصفه لمحبوبته عبلة ومن ذلك قوله:
إذْ تَسْتَبِيْكَ بِذِي غُروبٍ وَاضِحٍ
عَـذْبٍ مُقَبَّلُـهُ لَذيذُ المَطْعَـمِ
وكَـأَنَّ فَارَةَ تَاجِرٍ بِقَسِيْمَـةٍ
سَبَقَتْ عوَارِضَها إليكَ مِن الفَمِ
أوْ روْضـةً أُنُفاً تَضَمَّنَ نَبْتَهَـا
غَيْثٌ قليلُ الدَّمنِ ليسَ بِمَعْلَـمِ
فهذه المحبوبة أسرته بجمال ابتسامتها التي تظهر من ورائها أسناناً وريقاً توحي لك بأن قبلة من ذلك الفم لها عذوبة وطعم لامثيل له، ثم أنه حين يقترب منها يشم من فمها رائحة طيبة كأنها خرجت من ذلك الوعاء المسمى( الفارة) الذي يستعمله التجار لحفظ العطور يتخيل أنها من عوارضها التي هي الأسنان التي تلي الأنياب ، أو كأن هذه الرائحة رائحة روضة ممطورة لم تطأها قدم فهي نقية لاتخالطها روائح النفايات وبقايا الحيوانات بل لاتشم فيها سوى رائحة الأزهار.
ومن ثم نتوقف عند مقارنته بين حياته وحياة محبوبته فهي :
تُمْسِي وتُصْبِحُ فَوْقَ ظَهْرِ حَشيّةٍ
وأَبِيتُ فَوْقَ سرَاةِ أدْهَمَ مُلْجَـمِ
وَحَشِيَّتي سَرْجٌ على عَبْلِ الشَّوَى
نَهْـدٍ مَرَاكِلُـهُ نَبِيلِ المَحْـزِمِ
فمحبوبته تمسي وتصبح على فراش وثير محشو ، وهو يبيت فوق ظهر حصانه الأسود مدافعاً عن القبيلة، وبينما فراشها محشو بالأشياء اللينة فالحشوة التي يبيت عليها عنترة هي ذلك السرج الغليظ فوق حصانه الغليظ القوائم، العريض الأفخاذ ،السمين البطن.
ثم نمر سريعاً على وصفه لناقته حيث نلاحظ مع عنترة ومع غيره من كبار الشعراء أن الوصف حين يكون عن الناقة فإن الشاعر يسترسل فيه ويطيل ، ويتطرق من ضمن ذلك لكلمات غريبة ، وقد لاحظت في شعر كثير من أكابر شعراء العرب أن أغرب كلماتهم تأتي في سياق وصف الناقة والفرس، ولعل ذلك يرجع لعلاقتهم الكبيرة مع الناقة والفرس التي جعلتهم يتفننون في تسمية أعضائها وتشبيهها بأشياء كثيرة، وعنترة في انتقاله من وصف المحبوبة والحديث عنها إلى وصف الناقة حقق مايسميه الأدباء ب"فن حسن التخلص" ، فقد انتقل بسلاسة حين أسهب في الحديث عن المحبوبة ثم قال هل تبلغني ديار هذه الحبيبة ناقة شدنية-وشدن مدينة باليمن عرفت بجودة نياقها- ثم أسهب في وصف الناقة في أكثر من عشرة أبيات وأجمل الصور التي صورها في وصفه للناقة حين أراد أن يصور لنا نشاطها فقال:
وكَأَنَّما يَنْأَى بِجـانبِ دَفِّها الـ
وَحْشِيِّ مِنْ هَزِجِ العَشِيِّ مُـؤَوَّمِ
هِـرٍّ جَنيبٍ كُلَّما عَطَفَتْ لـهُ
غَضْبَى اتَّقاهَا بِاليَدَينِ وَبِالفَـمِ
فهو يقول أنها من نشاطها كأن هرّ ًا مربوطاً بجانب دَفِّها-أي إبطها- وهذا الهر يخدشها كلما أبطأت لكي تزيد سرعتها ، وكلما حاولت هذه الناقة الانعطاف إلى الهر لتؤذيه زادها عضاً بفمه وخدشاً بيديه لكي لاتؤذيه.
ثم نلتفت لبيتٍ جميل يحكي عن مأساة لذيذة من مآسي الفرسان فهم في حين يسهل عليهم قتل الفرسان وهم بكامل عتادهم يستعصي عليهم أحياناً مع أخلاقهم الفروسية أن يكشفوا القناع عن محبوباتهم حين يمنعونهم من رؤية تلك الوجوه المليحة مع أن نزع القناع أسهل من نزع أرواح الأبطال ، وكم سمعنا عن فرسان يصرعون الأبطال وهم أسود في الحرب ، ولكن عند الغواني هم خرفان وديعة وكل هذا لأن أخلاقهم الفروسية تمنعهم من التنعم بتلك اللذة غصباً.كل هذا الكلام أوحى لنا به عنترة حين قال:
إِنْ تُغْدِفي دُونِي القِناعَ فإِنَّنِـي
طَـبٌّ بِأَخذِ الفَارسِ المُسْتَلْئِـمِ
ومن ثم نأتي لفخره بنفسه الذي ابتدأه متحدياً الجميع بأن هذه المفاخر التي سيقولها حقيقية وأنه لايفتخر إلا بما فيه من طيب الصفات وذلك حين يقول:
أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـي
سَمْـحٌ مُخَالقَتي إِذَا لم أُظْلَـمِ
فإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ
مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ
وهنا يحكي عن أجمل صفات الفرسان وهي أن أخلاقهم مع أحبابهم سمحة فيها الكرم والطيبة، ولكنهم مع يعاديهم أو يظلمهم شديدي البأس والظلم ومن يظلمهم يُرونه ظلماً مرًّا طعمه مثل طعم العلقم.
بعد ذلك افتخر بأن العظمة صفة راسخة فيه ، فهو حتى وهو يشرب الخمر لاتظهر منه إلا الصفات الطيبة ، فالخمر إذا كانت تظهر من الأنذال أسوأ صفاتهم ، فهي تظهر -حسب قوله- أجمل صفاته وهي الكرم :
فإِذَا شَـرَبْتُ فإِنَّنِي مُسْتَهْلِـكٌ
مَالـي وعِرْضي وافِرٌ لَم يُكلَـمِ
وإِذَا صَحَوتُ فَما أَقَصِّرُ عنْ نَدَىً
وكَما عَلمتِ شَمائِلي وتَكَرُّمـي
ومن ثم نأتي للميدان الذي لايستطيع أحداً أن يغلب عنترة في وصفه ؛ وهو وصف الحرب وكيفية قتل الأبطال وحالتهم عند لقائهم مع الموت على يد عنترة، ولانزال نذكر تلك الأبيات التي تعلمناها في المدرسة والتي جعلت الكثير من الشباب يتمنون رؤية مثل تلك المعارك التي وصفها عنترة ووصف أبطالها وأنصفهم فيها وهي قوله:
ومُـدَّجِجٍ كَـرِهَ الكُماةُ نِزَالَـهُ
لامُمْعـنٍ هَـرَباً ولا مُسْتَسْلِـمِ
جَـادَتْ لهُ كَفِّي بِعاجِلِ طَعْنـةٍ
بِمُثَقَّـفٍ صَدْقِ الكُعُوبِ مُقَـوَّمِ
فَشَكَكْـتُ بِالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيابـهُ
ليـسَ الكَريمُ على القَنا بِمُحَـرَّمِ
فتَـركْتُهُ جَزَرَ السِّبَـاعِ يَنَشْنَـهُ
يَقْضِمْـنَ حُسْنَ بَنانهِ والمِعْصَـمِ
فهو يصور لنا فارساً مدججاً بالسلاح لاينقصه منه شيء ، وهو من القوة والبأس بحيث كره الكماة الأبطال منازلته ، وهذا الفارس لايثنيه عن هدفه شيء فهو لايهرب ولايستسلم. ولكن إن كره الكماة نزاله فعنترة لم يكره ذلك بل تكرم على ذلك الفارس بالذي بخل الأبطال عن إكرامه به وهي طعنة عاجلة برمح ٍ قوي مستقيم، فقص بذلك الرمح ثيابه التي هي الدرع وألحق بها روحه ، وهذا الشخص وإن كان كريماً عظيماً فالحرب لاتمييز عندها فالكل فيها معرض للموت العظيم والحقير، ثم نتوقف ونعجب لتلك اللحظات التأملية في الحرب التي تلوح لنا في عد من أبيات عنترة فهو يتوقف ليتأمل في حال ذلك الفارس وكيف تناوشته السباع وأكلت أعضاءه دون تقدير لعظمته فالجميع يتساوون عند الموت.
ثم يعود عنترة لوصف بطل آخر قتله وفتك فروج درعه السابغة قتكشفت له عن بطل يحمي غواليه مشهور في الحرب، وأجمل ماأعجبني في وصفه لهذا البطل هو ذلك الوصف الذي استعار فيه صفة من صفات الأسد لهذا البطل فكما يُبرز الأسد أنيابه عندما يريد قتل فريسته ليبث الرعب في قلبها ، فكذلك هذا البطل الذي نازل عنترة أبرز أنيابه ليس ابتساماً لعنترة ولكن تكشيراً لكي يُرهبه، ولكن تُرهِب من أيها البطل؟! فهذا عنترة الذي آخر مايذكره من بعد أنيابك هي تلك الدماء -التي تشبه في لونها العظلم- التي طلى بها في ذلك النهار أصابعك ورأسك :
لـمَّا رَآنِي قَـدْ نَزَلـتُ أُريـدُهُ
أَبْـدَى نَواجِـذَهُ لِغَيـرِ تَبَسُّـمِ
عَهـدِي بِهِ مَدَّ النَّهـارِ كَأَنَّمـا
خُضِـبَ البَنَانُ ورَأُسُهُ بِالعَظْلَـمِ
وتخون عنترة صفاته الفروسية وكلنا بشر نخطىء ، فينزل إلى مستوى الشباب اللعوبين فيتحين اصطياد حبيبته بعيداً عن أهلها ، وتأتي جاريته الخبيثة لتقول له أن الفرصة قد حانت لتصيد شاتك.. ياعيباه ياعنترة عسى ماتكون غلطت بس!
ياشَـاةَ ما قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لـهُ
حَـرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَها لم تَحْـرُمِ
فَبَعَثْتُ جَارِيَتي فَقُلْتُ لها اذْهَبـي
فَتَجَسَّسِي أَخْبارَها لِيَ واعْلَمِـي
قَالتْ : رَأيتُ مِنَ الأَعادِي غِـرَّةً
والشَاةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُو مُرْتَمـي
وكـأَنَّمَا التَفَتَتْ بِجِيدِ جَدَايـةٍ
رَشَـأٍ مِنَ الغِـزْلانِ حُرٍ أَرْثَـمِ
ونعود مع المجال الذي لايضاهي أحد عنترة في وصفه ألا وهو الحرب وهو هنا يكون واضحاً ومبدعاً إلى أقصى درجة ، وهذا المقطع من أجمل مقاطع القصيدة التي تجلب لنا أجواء الحرب وتخيلها لنا وفيه يقول:
ولقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بِالضُّحَى
إِذْ تَقْلِصُ الشَّفَتَانِ عَنْ وَضَحِ الفَمِ
في حَوْمَةِ الحَرْبِ التي لا تَشْتَكِـي
غَمَـرَاتِها الأَبْطَالُ غَيْرَ تَغَمْغُـمِ
إِذْ يَتَّقُـونَ بـيَ الأَسِنَّةَ لم أَخِـمْ
عَنْـها ولَكنِّي تَضَايَقَ مُقْدَمـي
لـمَّا رَأيْتُ القَوْمَ أقْبَلَ جَمْعُهُـمْ
يَتَـذَامَرُونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مُذَمَّـمِ
يَدْعُـونَ عَنْتَرَ والرِّماحُ كأَنَّهـا
أشْطَـانُ بِئْـرٍ في لَبانِ الأَدْهَـمِ
مازِلْـتُ أَرْمِيهُـمْ بِثُغْرَةِ نَحْـرِهِ
ولِبـانِهِ حَتَّـى تَسَـرْبَلَ بِالـدَّمِ
وأعجب والله من تصويره هنا للحرب ، فبعد أن تحدث عن وصية عمه له التي كما يتبادر إلى الذهن ربما كانت عن الصبر في الحرب وعدم الهيبة وبث العرب في الأعداء، أقول بعد أن مر سريعاً وقال أنه حفظ الوصية ، ذكر حال الفرسان في المعركة فمع أهوالها وشدتها يشد الأبطال شفاههم فتتقلص لتبدي وضح الفم وهي الأسنان، ولكن مع أهوال هذه المعركة فإن الأبطال لايصرخون من هولها ، وإنما يكون أقوى شكواهم التغمغم ، ووسط هذه الأهوال فإن فرسان القبيلة يقدمون عنترة لأنه أشجعهم ففي الحرب لابد من فارس جريء يتقدم حتى يُشجع من معه من الفرسان للمشي خلفه ، ولكن مع أن عنترة يتقدم بدون أن يَخِم-أي يجبن-لكن تقدمه يكون بطيئاً فليست هذه نزهة وإنما حرب شرسة كل شبر تريد أن تتقدمه فيها لابد أن تحسب فيه حسابك فأنت مستهدف . ثم يتطرق لصورة الالتحام الهائل فلمَّا أقبلت جموع الأعداء وهم يتذامرون-يحثون بعضهم على القتال- ورآهم عنترة كرَّ عليهم -أي هجم-وقومه يشجعونه على ذلك ويهتفون باسمه ، وبينما هو يشنف أذنه بذلك النداء الذي يتلذذ الأبطال مثل عنترة عند سماعه إذا بالرِّماح التي شبها عنترة بحبال البئر تضرب صدر حصانه الأسود " الأدهم" ،ويكر عنترة عليهم برفقة حصانه وهم يضربون الحصان راجين أن يسقط فيتسربل بالدم( أي كأنه لبس ثوباً من الدم لكثرة مانزف منه)، وهنا نأتي للصورة الشعرية التي وقف عندها الأدباء كثيراً، وهي ذلك الحوار الجميل بينه وبين حصانه الأدهم:
فَـازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنا بِلِبانِـهِ
وشَـكَا إِلَىَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ
لو كانَ يَدْرِي مَا المُحاوَرَةُ اشْتَكَى
وَلَـكانَ لو عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِـي
فوسط هذه الأهوال يلتفت لحصانه ويسمع شكواه التي هي ليست عبارة عن كلام ، بل هي دموع وتحمحم - وهو صوت يصدره الحصان عند التعب - ومن قال لنا إخوتي أن الحيوانات ليس لها دموع ؟! وماذا نسمي إذن تلك الدموع التي رآها عنترة في عيون حصانه الأدهم؟!
لكن ألا تعجبون معي لالتفات عنترة للحصان وتعابيره وسط تلك الأهوال؟ أما أنا فلا أعجب لأنني أعلم من حياة عنترة أن أعظم صديق له في حياته كلها كان هذا الحصان، فقد كان يطعمه مالا يطعم أهله أحياناً.ولم لا يكون كذلك وعنترة عاش مع الحصان آماله وآلامه؟! ولم لايكون كذلك وهو كان أول الدرجات التي صعدها عنترة في طريق الحرية؟! وكم اشتكت زوجة عنترة من هذا الحصان وأنه يأكل من الزاد مالاتأكله هي...فماذا كان يقول لها عنترة؟!:
لا تذكري مهري وما أطعمتهُفيكونُ جلدكِ مثلَ جلدِ الأجربِإنَّ الغَبُوقَ لهُ وأنْتِ مسوءَة ٌفتأَوَّهي ما شئْتِ ثمَّ تحَوَّبيكذَبَ العَتيقُ وماءُ شنٍّ باردٍإنْ كُنتِ سائِلَتي غبُوقاً فاذهبيإنَّ الرِّجالَ لهمْ إليْكِ وسيلَة ٌإنْ يأْخذوكِ تكحَّلي وتخضَّبيويكُونُ مرْكبُكِ القَعُودَ ورَحْلهُوابنُ النَّعامَة ِ يَوْمَ ذلكَ مَرْكبيإِنيَّ أحاذرُ أنْ تقولَ ظعينتيهذَا غُبارٌ ساطعٌ فتَلَبَّبوأنا امْرُؤٌ إنْ يأْخذوني عَنوَة ًأقرنْ إلى شرَّالركابِ وأُجنبِ
نعم لاتقارني نفسك مع هذا الحصان في نوعية الطعام! فلئن لم تنتهي لأجعلن جلدك مثل جلد الأجرب من كثرة الضرب . سيكون اللبن الطيب له رغماً عنكي! فاصرخي كما شئتي فلاطعام لكي عندي سوى التمر القديم والماء البارد! ومم تخافين أنتي إذا جاءت الحرب فكل ماعليكي فعله أن تتكحلي وتخضبين نفسك بالحناء حتى يرغب فيكي أحد هؤلاء المعتدين ويكرمك وتركبين معه القعود، أمَّا أنا فلن يكون لي سوى ظهر هذا الحصان السريع الذي تذمينه، إنني ياهذه أحاذر أن تقول لي إحدى النساء الذين يحتمون بي " هذا غبار المعركة قد أقبل فاستعد"،
ولعلك لا تجهلين أنني بطل مستهدف ومطلوب بثارات فإن استطاع هؤلاء الأعداء أن يأخذوني فسيربطونني إلى جانب أسوأ دابة عندهم ويسحبونني حتى الموت . نعم والله لك العذر ياعنترة فالحصان هذا هو كل شيء عندك فهو أولاً وكل شيء ثانياً! فماذا تستفيد لو قصرت في طعامه وخصصت زوجتك بأحسن الطعام ؟! فسيأتي ذلك اليوم الذي لايستطيع فيه هذا الحصان أن يحملك ومن ثم ستسبى زوجتك ويقتلونك؟!
وكأن عنترة ياإخواني نفذ بقوة بصيرته في هذه الأبيات إلى نهايته، فهذا ماحصل في نهاية حياة عنترة فقد قيل أن سبب مقتله في إحدى معارك عبس مع طيئ أن حصانه لم يقوى على حمله فسقط عنه وتلاحق عليه فرسان طيئ فقتلوه لتنتهي بذلك حياة اسطورة عربية قل أن يكون في التاريخ مثلها .
وللحديث بقية عن نماذج أخرى من شعر عنترة ، وحول الأساطير التي حيكت حول عنترة وأصل هذه الأساطير.