عرض مشاركة مفردة
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 31-12-2012, 09:53 PM
سعد الرشيدي
ابـو مــحــمـــد
الصورة الشخصية لـ سعد الرشيدي
رقم العضوية : 1
تاريخ التسجيل : 22 / 4 / 2006
عدد المشاركات : 3,276
قوة السمعة : 10

سعد الرشيدي قام بتعطيل خيار تقييم العضوية
غير متواجد
 
الافتراضي
أيام حرب داحس والغبراء
وتحسن الإشارة إلى أن بلاد بني ثعلبه من ذبيان قد شهدت في الجاهلية بداية ونهاية حرب داحس والغبراء، مثل: يوم اليعمرية في بطن نخل الحناكية، ثم المريقيب، ثم ذي حسى "حسو عليا"، ثم جفر الهباءة، فذات الجراجر، وغيرها. ومن أهم أحداث أيام تلك الحرب ما حدث على شفا جفر الهباءة، ذلك المكان الذي قُتِل فيه حذيفة بن بدر الفزاري سيد بني ذبيان، ومن معه من قومه، على يد قيس بن زهير سيد بني عبس، بمشاركة بضعة فرسان من قومه، ما زاد الحرب اشتعالاً بين عبس وذبيان، وألبس ذلك الموقع تاجاً من الشرف الخالد في صفحات التاريخ.
ولوقوع هذا الموضع في بلاد بني ثعلبه، مع ما يحمل من معنى عظيم في المجد والعزّ يستحسن أن ندخل ضمن هذا الحديث عن بلادهم ما سبق وأن نشر ليّ في مجلة "المسبار" حول تحديد موقعه، لتعميم الفائدة، ومما جاء فيه:

 
 
 
جفر الهباءة بين وادي بيضان ووادي اليعمله


لقد نقل مقتل حذيفة عند جفر الهباءة ذلك الموقع من مستنقع لماء المطر، لا تتجاوز معرفته آنذاك حدود من حوله من أهل البادية إلى علم صار من أكثر الأعلام شيوعاً وأبعدها ذكراً في المراجع التاريخية والأدبية قديماً وحديثاً، إلا أن ما يثير الاستغراب أن تحديد موقعه تحديداً شافياً ظل على مر الزمن غير متفق عليه، ولذلك دعونا نلقي نظرة على بعض أقوال من عنى بذكره من المؤرخين، وتطبيق ما جاء فيها ميدانياً على أرض الواقع، لعلنا بذلك نهتدي إلى معرفة موقعه، أو تحديد الموضع الذي يقع المكان بجزء منه، فلنبدأ، لنرى:
قال ياقوت: جفر الهباءة: اسم بئر بأرض الشّرَبّة قتل بها حذيفة وحمل ابنا بدر الفزاريان()..، ثم قال في مكان آخر: الهباءة: قال ابن شميل الهباء التراب الذي تطيره الريح فتراه على وجوه النّاس وجلودهم وثيابهم، وتأنيثه للأرض: وهي الأرض التي ببلاد غطفان قُتِل بها حذيفة وحَمَل ابنا بدر الفزاريان، قتلهما قيس بن زهير(). وجفر الهباءة: مستنقع في الأرض، وقال عرّام: الصحن جبل في بلاد بني سليم فوق السوارقية، وفيه ماء يقال له الهباءة، وهي أفواه آبار كثيرة مخرقة الأسفل يفرغ بعضُها في بعض الماء العذب الطيب ويزرع عليه الحنطة والشعير وما أشبهه؛ وقال قيس بن زهير العبسي:


تعلّمْ أنّ خيرَ النّاسِ ميتٌ


على جفر الهباءة لا يريمُ

ولولا ظلمه مازلت أبكي


عليه الدهر ما طلع النجومُ

ولكن الفتى حمل بن بدر


بغى والبغي مصرعه وخيمُ

أظن الحِلمَ دلّ على قومي


وقد يستهجلُ الرجل الحلمُ

ومارست الرجال ومارسوني


فمعوجٌ عليّ ومستقيم



وقال أيضاً قيس بن زهير من أبيات:


شفيت النفس من حمل بن بدر


وسيفي من حذيفة قد شفاني

شفيت بقتلهم لغليل صدري


ولكني قطعتُ بهم بناني





وقال صاحب المناسك: وذات أحباب من أرض بني سليم، من موقع يقال له بيضان، وهو وادي الهباءة، الذي قتل فيه قيس بن زهير من قتل().
وقال البكري: الهباءة: ممدودة، على وزن فعالة، قد مضى ذكره محدد في رسم الربذة() وفي رسم (شواحط). كانت فيه حرب من حروب داحس، لعبس على ذُبيان. وفيه قتل الربيع بن زياد حَمَل بن بدر، وقال قيس بن زهير يرثيه:


تعلّمْ أنَّ خير النّاس ميِّتٌ


على جفر الهباءة لا يريمُ



وقال عَقِيل بن عُلّفة:


وإنّ على جفر الهباءة هَامةً


تُنَادِي بني بدرٍ وعاراً مُخّلَّداً



وكان قد ذكر قبل هذا في رسم (شواحط) نقلاً عن عرّام السلمي وقال:... وحذاءه وادٍ يقال له بيضان، فيه آبار كثيرة، يُزرعُ عليها، وحذاءه بلد يقال له الصحن، وفيه يقول الشاعر:


جَلَبْنا من جنُوبِ الصَّحْنِ جرداً


عِتاقاً سَيْرُها نَسْلاً لنسلِ

فوافينا بَهَا يومى حُنَيْنٍ


نَبِيَّ اللهِ جدّاً غير هزلِ



وفيه مياه يقال لها الهباءة،آبار كثيرة منخرقة الأسافل يفرغُ بعضُها في بعض، عذبة يزرع عليها()..
وقال أبو علي الهجري وهو يتكلم على حِمَى الربذة مبتدئاً من جبل رحرحان، ومنهياً مساره على شكل دائرة حول الحمى، حتى عاد إلى رحرحان الذي بدأ مساره منه، آتياً إليه من الشمال، ومما قال فيه...، ثم يليها جبال يقال لها اليعمله، وبها مياه كثيرة، بوادٍ يقال له وادي اليعمله، وهي في أرض بني سليم وناحية أرض محارب، ومياهها مشتركة بين الحيّيْن، وبين الربذة واليعمله ثلاثة عشر ميلاً، قال عامر الخصفي:


أحْيَا أباه هَاشِمٌ بن حَرْمَلَةْ


بَيْنَ الهباءات وبَيْنَ اليَعْمَلَهْ

ترى الملوك حَوْلَهُ مُغَرْبَلَهْ


يَقْتُلُ ذا الذّنبِ ومَنْ لاَ ذَنْبَ لَهْ



ثم الجبال التي تلي اليعمله: هضاب حمرٌ عن يسار المصعد تُدْعَى قواني، واحدتها قانية، وهي في أرض حَرّة لبني سُلَيمٍ بينها وبين الربذة اثنا عشر ميلاً()...
وقال مؤلفو كتاب: "أيام العرب في الجاهلية"، وهم يتكلمون عن أيام حرب داحس والغبراء ما نصه: فتوافوا بذي حسى، وهو وادي الهباءة في أعلاه. وأقول: ذو حسى هو ما يعرف في يومنا هذا بـ (حسو عليا)، وكان قد جرى فيه يوم من أيام تلك الحرب.
واستعرض البلادي في رسم جفر الهباءة الكثير من هذه الأقوال، وقال: ويوجد مكان حول السُّوِارقيّة بهذا الاسم، وقد مرّ معنا عرضاً في هذا الكتاب() في (بيضان)، وقد حذفت هاءه هناك، ولعله للجمع، وهو اليوم في ديار بني عبدالله بن غطفان، ولكن هذه الأرض كانت أيام حرب داحس والغبراء من ديار بني سليم، ولكنها ليست بعيدة عن ديار غطفان، وجمعها الشاعر فقال:


أحْيَا أباه هَاشِمٌ بن حَرْمَلَةْ


بَيْنَ الهباءات وبَيْنَ اليَعْمَلَهْ



وهذا يوحي بأنها قريبة من الربذة. وهاشم هذا هو ابن حرمله بن الأشعر رئيس بني مرّه بن عوف بن ذبيان، فلما قتله قيس بن الأسوار الجشمي، قال:


أنا قتلت هاشم بن حرمله


بين الهباءات وبين اليعمله



 
وهذا يؤكد أنها من منازل بني ذبيان، وبنو ذبيان، وبنو سليم كانوا جيرة.
ومما تقدم ذكره عن جفر الهباءة يتضح أن الاسم كان يطلق على موضعين: أحدهما في وادي بيضان في ديار بني سليم القديمة، ولايزال معروفاً باسم (هبا)، والآخر قريباً من جبل اليعمله (الحندوري حالياً) بجهة الربذة في ديار بني ثعلبه بن سعد بن ذبيان من غطفان، وقد جُهِلَ موقعه منذ أمدٍ بعيد. ولاشك في أن الاتفاق في الاسم بين موضعين، ثم اقتصاره في مرحلة لاحقة من الزمن على إحداهما من دون الآخر قد يوهم أحد المؤرخين بنسبة ما لهذا الموضع غير المعروف من الأشعار والأخبار التاريخية للآخر الذي يحمل الاسم وحده من دون سواه.
ولذلك فليس من المستغرب أن نرى في بعض النصوص المتقدم ذكرها من قال: أن الهباء في وادي بيضان هو المكان الذي قتل فيه حذيفة بن بدر الفزاري سيد بني ذبيان، فيما قال آخرون: أن ذلك المكان كان على مقربة من جبل اليعملة، بناحية الربذة، والسؤال: هل مصرع حذيفة وأصحابه عند جفر الهباءة كان بوادي بيضان أم بجهات الربذة من ديار غطفان القديمة؟ والواقع أن لا معدى لنا عن الرجوع إلى الخلفية التاريخية والجغرافية لكلا الموضعين، لنبيّن من أقوال المتقدمين وواقع المشاهدة ما يقوى القول في أن هذا الموضع كان أحق بهذه النصوص من الآخر، بيان هذا:
أولاً: جفر الهباءة: يفهم من كلام المتقدمين في صفته ما يلي:
1- إنه مستنقع لماء المطر.
2- إنه في ملاذٍ طبيعي، لا يسمح لمن هو فيه أن يرى أبعد من رؤية حمل بن بدر لقيس بن زهير وأصحابه، وهم يباغتونهم في الجفر، وفي ذلك يروى أن حملاً لما أبصرهم قال لمن معه في الجفر: من أبغض النّاس أن يقف على رؤوسكم؟ فقالوا: قيس بن زهير والربيع بن زياد. فقال: هذا قيس قد أتاكم!، ولم ينفض كلامه حتى وقف قيس وأصحابه، وحالوا بينهم وبين الخيل()...
3- تراب أرضه من النوع الذي تتمرّغ به البهائم من إبل وخيول وحمير، وقد سبق شرح وتعريف هذا النوع من التراب لغويّاً من قبل ياقوت نقلاً عن ابن شميل.

ثانياً: وادي بيضان: وادٍ أفيح كثير الفياض، يقع جنوب السوارقيّة، يمتدُّ من الجنوب إلى الشمال، في منخفض من الأرض، بين حرّتين سوداوين، يتدفق فيه سيول الحرّتين غرباً وشرقاً إلى أن تبتلعه سباخ وقيعان السوارقية، وهناك يتوقف مجراه في هذه القيعان، وليس له مخرج منها، ومن بين أهم روافده من الأودية وادي الفطح()، تبتدئ أعالي فروعه منجهة هضيب بني عزيز: - جبل مرتفع برأس الركن الشمالي للحرّة الغربية، لمجرى وادي بيضان -، ثم ينحدر مشرقاً مع سفح الحرّة، إلى أن يوشك أن يخرج منها،وهناك يتسع في نزلة من الأرض غبراء التربة، وفيها تتشكل غابة ذات أشجار كثيفة من السَّلَم: (نوع من العضاة)، وفي أعلى هذه الأشجار ثمة آبار الهباء التاريخية، لا تزال كسابق عهدها لم تُهجر على مر العصور المتوغلة في القدم، إلا أن بقاء الحال من المحال، فقد نضب ماؤها بعامل الجفاف الذي بلغ فيها مداه في يومنا هذا، فإذا خرج الوادي من الحرّة مقترباً من شروعه في وادي بيضان ينداح من حافته الشمالية قاع فسيح أملس، يلتف عليه قوس من الحرّة، على هيئة الصحن، هذا القاع هو ما كان يعرف قديماً ولا يزال باسم الصحن، وعليه فهو قاع وليس جبلاً، كما في بعض النصوص السابق ذكرها، وفي هذا العهد قامت قرية فوق ربوة تطل على الصحن من جهة الغرب، تحمل اسم (هبا)، سكانها بنو عَزِيْز من بني عبدالله من مطير.
وبالإجمال: فوادي بيضان و(الهباء) جزء من جغرافيته فيه من العوائق السياسية والاجتماعية والجغرافية ما يمنع وقوع مثل يوم جفر الهباءة فيه للأسباب التالية:
1- إنّه في عمق ديار قبيلة بني سليم القوية، وفي حرز من حرّتها.
2- كان فيه آبار كثيرة ومزارع ودار إقامة دائمة لبطون من بني سليم.
3- وقوع مثل هذا اليوم بموقع الهباء من بيضان يفرض أن يكون بين بني سليم وعبس حلف يسمح لعبس في التواجد بينهم، وهذا لم يقل به أحد لا من المؤرخين ولا من الشعراء.
4- لو سلّمنا جدلاً أن مثل هذا الحلف كان قائماً بين عبس وبني سليم، فهل يسمح بنو سليم لقبائل بني ذبيان ومن معهم من الأحلاف كأشجع وبني أسد أن ينقلوا حربهم مع عبس إلى داخل ديارهم من دون أن يكونوا طرفاً في هذا اليوم، دفاعاً عن أهلهم وحرمة بلادهم ومن يمت لهم بحلف ويعيش بين ظهرانيهم؟ إن شيئاً من هذا لم يقع تاريخياً، ولا يمكن بأي حال تصور حدوثه في هذا المكان.
5- من المعروف تاريخياً أن عبساً قد أخذوا برأي قيس بن زهير، ليخدعوا بني ذبيان عند ردة فعلهم على مقتل قادتهم يوم الهباءة، فأمرهم أن يسرّحوا الإبل ترعى في الفلاة، ويرحلوا من منزلهم والمقاتلة من الفرسان ورائهم، فكان من رأي قيس أن الغزاة إذا طلعوا عليهم ووجدوا المال بلا حماية يميلون إلى اقتسام الغنائم، وهي غاية طلبهم، فإذا فرّق المغنم وحدة صفهم يعطفون الخيل عليهم، وحينئذٍ يسهل استلحامهم، واسترجاع المال من أيديهم، وقد وقع فعلاً ما توقعه قيس، فانهزم من سلم من القتل من بني ذبيان، في مجموعات صغيرة، وهم في فوضى من أمرهم()، وهذا اليوم الذي كانت الخيل ونجائب الإبل تجول في طوله وعرضه، وهي في حالة كرٍّ وفرٍّ ومطاردة لابدّ أن يكون ذلك في بيداء مترامية الأطراف، وهذا غير ممكن ولا متاح في وادي بيضان.
ثالثاً: جفر الهباءة بناحية الربذة:
1- قال ياقوت: جفر الهباءة: اسم بئر بأرض الشّربّة، قُتِل بها حذيفة وحمل ابنا بدر الفزاريان.
2- وفي كتاب: ((أيام العرب في الجاهلية)) فتوافوا بذي حسى، وهو وادي الهباءة في أعلاه.
3- أورد البلادي في كتابه: ((معالم الحجاز)) الشواهد المتقدمة في أوّل البحث عن جفر الهباءة، ثم قال: يوجد اليوم مكان حول السوارقية بهذا الاسم، وقد مرّ معنا عرضاً في هذا الكتاب في وادي (بيضان)، وقد حذفت هاءه هناك، ولعله للجمع، وهو اليوم في ديار بني عبدالله بن غطفان، ولكن هذه الأرض كانت ايام حرب داحس والغبراء من ديار بني سُلَيم، ولكنها ليست بعيدة عن ديار غطفان، وجمعها الشاعر فقال:


أحْيَا أباه هَاشِمٌ بن حَرْمَلَةْ


بَيْنَ الهباءات وبَيْنَ اليَعْمَلَهْ



وهذا يوحي بأنها قريبة من الربذة. وهاشم هو ابن حرملة بن الأشعر رئيس بني مرّة بن عوف بن ذُبيان، فلما قتله قيس بن الأسوار الجشمي، قال:


أنا قتلت هاشم بن حرمله


بين الهباءات وبين اليعمله



 
وهذا يؤكد أنها من منازل بني ذبيان، وبنو ذبيان، وبنو سليم كانوا جيرة.
4- لعل أدق ما ورد عن المتقدمين في تحديد جفر الهباءة في هذه الجهة قول أبي علي الهجري، في كلامه على حدود حمى الربذة، فعند ذكره جبل (اليعمله) كعلم من معالم حدود هذا الحِمَى قال... ثم يليها جبال يقال لها اليعمله، وبها مياه كثيرة بوادٍ يقال له وادي اليعمله، وهي في أرض بني سليم وناحية أرض محارب، ومياهها مشتركة بين الحيين، وبين الربذة واليعمله ثلاثة عشر ميلاً، وجفر الهباءة بناحية أرض بني سليم في ظهور اليعملة، قال عامر الخصفي:


أحْيَا أباه هَاشِمٌ بن حَرْمَلَةْ


بَيْنَ الهباءات وبَيْنَ اليَعْمَلَهْ

ترى الملوك حَوْلَهُ مُغَرْبَلَهْ


يَقْتُلُ ذا الذّنبِ ومَنْ لاَ ذَنْبَ لَهْ



ثم الجبال التي تلي اليعملة: هضاب حمرٌ عن يسار المصعد تُدْعَى قواني واحدتها قانية، وهي في أرض حرّة لبني سليم بينها وبين الربذة اثنا عشر ميلاً.
ومما ينبغي ملاحظته في هذا النص هو:
أ- إن جبل اليعمله يعرف اليوم باسم (الحندوري)()، وهو يمتدُّ من الغرب إلى الشرق، ويرى طرفيه الغربي واشرقي معاً، لمن يشاهده من الجنوب أو الشمال، وكأنه ظهر ناقة بلا سنام، ومعنى اليعمله لغويّاً: الناقة، قال الشاعر:

على يعملات كالحنايا ضوامرٍ


إذا ما أنيخت فالكلالُ عِقَالُها



ب- أبو علي الهجري عندما كتب عن حِمَى الربذة في أوائل القرن الرابع من الهجرة كان من سكان المدينة المنورة، فقوله: في ظهور اليعمله: أي: في جهة الشرق من الجبل لمن هو في المدينة.
5-في أخبار حرب داحس والغبراء إشارة يجب الاستفادة منها في البحث عن موقع جفر الهباءة، وهي: إن بني ذبيان بعد مقتل قادتهم في الجفر اجتمعوا إلى سنان بن حارثة المريّ مطالبين إياه بالثأر، فسار بهم إلى عبس، فأدركوهم بذات الجراجر، إلا أنهم لم يجدوا إلا أهل القوة والجلد من الفرسان، فيما الأموال والظعائن قد تم إرسالها إلى داخل ديار بني عامر بن صعصعة، وفي هذا دليل على أن جفر الهباءة في ديار بني ذبيان القريبة من ديار بني عامر.
ومما تقدم يتضح:
1- جفر الهباءة بأرض الشّرَبّة.
2- إنه بجهة الربذة وتحديداً بجوار جبل اليعمله (الحندوري حالياً) وفي الجهة الشرقية منه.
3- هضب قواني (الحمر حالياً) متناثرة في أعالي وادي اليعمله، والمسافة بين أقصى هذه الهضب تقدر بثمانية أكيال تزيد قليلاً أو تنقص مثله، وهذا ينسحب على طول امتداد الوادي فيما بينهما.
4- وادي اليعمله فيه مياه كثيرة مشتركة بين بني سليم وبني محارب، بطول المسافة بين قواني واليعمله، وجفر الهباءة في حقوق بني سليم، وهذا يعني أنه لا يبعد عن جبل اليعمله أكثر من خمسة أكيال.
5- جفر الهباءة، يقع في أعلى وادي حسي (حسو عليا) وأعالي وادي الحسو تنحدر من جهتين: الأولى: من هضبة مثلثة في الغرب منه، والثانية: من هضب قواني (الحمر حالياً) في الجنوب الغربي منه، ومن هذا الهضب ينحدر سيل وادي اليعمله مندفعاً صوب الغرب، ومارّاً باليعمله من جهة الجنوب، وقد ورد في مقتل حذيفة بن بدر على لسان الربيع بن قعنب قوله:


خَلَق المخازي غير أن بذي حسي



لبني فزارة خِزْيةً لا تَخلَقُ

تبيان ذلك أن في أست أبيهم


شنعَاءُ من صُحفِ المخازي تبرقُ




6- الربذة وهضب قواني، وجبل اليعملة، وذي حسى كلها مواضع من أرض ما يعرف قديماً الشّرَبّة.
وبناء على ما سبق بيانه أقول: يوجد إلى الشرق من جبل اليعمله (الحندوري) على أقل من ثلاثة أكيال هضبة ذات رؤوس ثلاثة أصلها واحد، تُدْعَى (ذَرِيح)، تقع على الضفة الشمالية لوادي اليعمله، ومنها تنحدر تلعة باتجاه الشمال، فإذا نزل سيلُها في الأرض اعترضه عارض من الهضبة، فينحرف مجراه نحو الشرق، مكوّناً من أثر ذلك منقعاً للماء، هذا العارض يمنع الرؤية من هذا المنقع وإليه من بعيد، فهو في ساتر من الهضبة، وكان في القديم– حسب رواية أهل هذه الناحية - إحساء جاهلية معروفة. إمّا اليوم فقد تحولت تلك الأحساء إلى آبار، وقد أُقيم عند أسافلها سدٌّ ترابي لحجز الماء، وكل النصوص التاريخية والشواهد والأشعار والأوصاف المتقدم ذكرها عن جفر الهباءة تنطبق على مكان هذه الآبار في هضبة ذرِيح، وإن لم يكن هو المكان بعينه، فلا يبعد أكثر من كيلين شرقاً عن هذا المكان، فالموضع الذي يقع الجفر بجزء منه، سواء أكان في هضبة "ذريح" أم في أعلى وادي حسي هو في هذا الهضب الذي كان يشمله اسم قواني (الحمر حالياً) وإن كان لكل هضبة منعزلة منه اسم تعرف به. وفوق كل ذي علمٍ عليم.
ج- بنو مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان:
ومنهم: بنو غيظ، بنو صرمة، بنو يربوع، بنو سهم، بنوسنان، بنو ربيعة، بنو سُلْمِى، بنو دهمان، بنو قتال، بنو الصارد، وغيرهم.
وفي كتاب "السيرة النبويّة: 1/102" ما يلي:
قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: لو كنت مدعيّاً حيّاً من العرب، أو ملحقهم بنا لأدّعيت بني مرّة بن عوف، إنّا لنعرف فيهم الأشباه، مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي.
وقال ابن إسحاق: أما عوف بن لؤي فإنه خرج – فيما يزعمون – في ركب من قريش، حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس، أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبه بن سعد، وهو أخوه في نسب ذبيان... فحبسه وزوّجه والتاطه – أي : ألصقه به – وآخاه. فشاع نسبه في ذبيان...، ثم قال: فهو في نسب غطفان: مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ربث بن غطفان. وهم يقولون إذا ذكر لهم هذا النسب: ما ننكره وما نجحده، وإنّهُ لأحبُّ النسب إلينا...، ثم قال: وحدثني من لا أتهُّم أن عمر بن الخطاب قال لرجال من بني مرّة: إنْ شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه. وعلّل ابن إسحاق بقاءهم في نسب غطفان وقال: قوم لهم صيت وذكر في غطفان وقيس كُلّها فأقاموا على نسبهم، وفيهم كان البسل.

أمر البسل
قال: والبّسْلُ – فيما يزعمون – ثمانية أشهر حُرُمٌ لهم من كل سنة من بين العرب، قد عرفت ذلك لهم العرب، لا ينكرونه، ولا يدفعونه؛ يسيرون به إلى أي بلاد العرب شاءوا، لا يخافون منهم شيئاً. وبهذا المعنى تمثّل فيهم زهير بن أبي سلمى وقال:


إلى مَعْشَرٍ لم يُورثِ اللّؤمَ جَدُّهم



أصاغرَهم وكُلُّ فَحْلٍ له نَجْلُ


فإن تُقْوِيَا منهم فإنَّ مَحُجَّراً


وجزع الحسا منهم إذ قلّما يَخْلُو

بِلاَد بِهَانَادمتُهم وعرفتُهم


فإن أوحشتْ منهم فإنهم بَسْلُ

إذا فَزِعُوا طاروا إلى مستغيثهم


طوالُ الرماح لا قصارٌ ولا عُزْلُ

فإن يُقتلوا فيشفى بدمائهم()


وكانوا قديماً من مناياهم القَتْلُ



وفي "الطبقات"() لابن سعد: قدم وفد من بني مرّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلاً، رأسهم الحارث بن عوف. فقالوا: يا رسول الله إنّا قومك وعشيرتك، نحن قوم من بني لؤي بن غالب: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أين تركت أهلك"؟ قال: بسلاح وما والاها. قال: "وكيف البلاد"؟ قال والله إنّا لمسنتون. فادع الله لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقهم الغيث" وأمر بلالاً أن يجيزهم، فأجازهم عشر أوقية فضّة، وفضّل الحارث بن عوف أعطاه اثنتى عشرة أُوقية، ورجعوا إلى بلادهم، فوجدوها قد مطرت في اليوم الذي دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

منازل بني مرّة في حرّة النار
مثل ما كان لهم في عُرفِ النَّاسِ ثمانية أشهر حُرُمٌ في السنة، لا يجرؤ أحدٌ من العرب أن يمسَّهُمْ بسوء كان لهم – أيضاً – من منازلهم بحرّة النّار حصونٌ منيعة بجبالها ولُوُبِهَا، فهم في هذه الحرّة بمنأى عن الأعداء، قال النابغة الذبياني – متباهياً – :


إما عُصِيتُ فإني غيرُ مُنفَلتٍ


مني اللصابُ فجنبا حرّة النّارِ

أو أضعُ البيت في سوداء مظلمةٍ


تُقَيّدُ العَيرَ لا يسري بها السارِي

تُدَافعُ النَّاسَ عنّا حين نركبُها


من المظالم تُدْعَى أمُّ صبّارِ



فهي قاعدة بلادهم التي كانوا فيها يتكاثرون تكاثراً دعا أحد الشعراء أن ينكر أن لبني مرة أرضاً خارج هذه الحرّة، قال:

ما أن لمرّة من سهل تحل به


ولا حزن إلا حرّة النّارِ



فجلّ منازلهم كانت منتشرة في فدك الحائط، ويديع (الحويّط)، وضرغد (ضرغط)، وفي مختلف المواضع الشرقية من الحرّة حول هذه الواحات، يساكنهم فيها فروع من فزارة وغيرها، وكذلك في الجانب الشمالي الغربي من الحرّة في (الظهر)، و(جثا) و(جبار)، و(يمن) و(حجر) و(سلاح)() و(الممدور)() وما والاها في هذه الجهة، حيث منازل قبيلة بني سهم من بني مرّة، قال عمرو بن عون الصاردي المرِّي، وقد انتابه الشوق إلى معشوقته من بني سهم في هذه الجهة:


يّهِيْج عليَّ الشَّوقُ أنْ شطَّتِ النوى


بِسَهْمِيّةٍ ما شَمْلُها بِمُدَانى

تَحُلُّ جُثَا و الظَّهْرَ رابعةً بِهِ


ومَحْضَرُها بالصَّيفِ جَوُّعِتَانِ



وقال ابن مَيَّادَةَ من بني مرّة:


نظرنا فهاجتنا على الشوق والهوى


لزينب نارٌ أُوقدت بجُبَار

كأنَّ سناها لاح لي من خصاصة


على غير قصدٍ والمطيُّ سوارِ

حمَيْسِيَّة بالرملتين محلها


تمتَُ بحلفٍ بيننا وجوارِ



وبنو حميس بن عامر بن ثعلبه من جهينه وهم حلفاء بني سهم.
وفي "معجم شمال المملكة: رسم ضرغد" قال حمد الجاسر: ضرغد لا يزال معروفاً، ويقع شمال فدك (الحائط)، ولهذا فحرّة فدك يُسمَّى كُلُّ جانب منها باسم أحد مواضعه، فهي حرّة فدك وحرّة ضرغد وحرّة اثنان وحرّة النّار وحرّة مرّة وحرّة غطفان.
وأقول: ويشملُ هذه المواضع كُلُّها في هذا العهد اسم حرّة بني رشيد.
وتشمل ديارهم أيضاً حرّة ليلى()؛ وهي الطرف الشمالي الشرقي لحرّة النّار، يفصل بينهما وادي المخيط()، لا يزال معروفاً، قال ابن ميادة أحد شعراء بني مرّة:


ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً


بِحَرَّةِ لَيْلَى حَيْثُ رَبَّتنِي أَهْلِي

بِلادٌ بِهَا نِيْطَتْ عليّ تَمائِمِي


وَقُطّعْنَ عَنَّي حِيْنَ أَدْرَكَنِي عَقلِي


ومن جبالهم:
1-جبل العلم: جبال وهضاب، وفيها أودية كثيرة أكثرها ذكراً في الأخبار والأشعار القديمة وادي الرقم (الرقب) الذي يخترق جبل العلم، ثم يخرج منه متجهاً صوب الشمال الشرقي، حتى يفيض في وادي الرمّة، مقابل قرية الثمامي من الغرب، وفيه يوم من أيام العرب في الجاهلية، لغطفان على بني عامر، وفي هذا اليوم فرّ عامر بن الطفيل عن أخيه الحكم، وهو ما دفعه لخنق نفسه، وفي ذلك تمثّل عُروة بن الورد متعجباً وقال:


عَجبْتُ إذ يخنقون نُفُوسَهُمْ


ومَقْتَلُهُم تحت الوغا كان أعذر



ونقل ياقوت عن نصر أن السهام الرقميّة كانت تصنع في وادي الرقم وإليه تنسب().
وفي القرن الثالث الهجري كان الرقم منزلاً من منازل الطريق من (فيد) إلى (المدينة المنورة) وقرية عامرة بالسكان، تعج بالنشاط التجاري والزراعي ومنافع الحياة، ذكر ذلك صاحب كتاب: "المناسك: 518-519" وهو يعدد المواضع التي يمرّ بها الطريق في وادي الرقم (الرقب)، ما هذا نصّه: .. ومن حساء بطن الرّمة إلى الرقم أربعة وثلاثون ميلاً.
ومن أسود العُشريات على اثنى عشر ميلاً من حساء وبها البريد، وهو ظِرب أسود على الطريق، وقباب خربه، وبئر عتيقة، ماؤها ملح.
وبعده بثمانية أميال على ظهر الطريق بئر عذبة الماء، عند شجرة خصبة الموضع عن يمين الطريق.
وبعدها بأربعة أميال عند البريد ماء وإليه ينسب، وهو محصور، وفيه بناء وآبار عمق كل بئر عشر قامات، وأبيات أعراب من بني مرّة بين جبلين يقال للأيمن الحديد، والأيسر ذو رأس.
ومن فــ
صـه الرقم إلى الخَرِب وسي، الخرب موضع فيه بئر كبيرة غليظة الماء في بطن الوادي على ظهر الطريق.
وبالرقم قصر وسوق ومنازل ونخل كثير وآبار كثيرة الماء عذبه، ومن الرقم إلى السعد أربعة وعشرون ميلاً.
والناصفه على ميلين من الرقم، وهو وادي سلم وطلح. انتهى ما يعنينا مما في كتاب المناسك من المواضع في وادي الرقب (الرقم)، ومما ينبغي ملاحظته وتجدر الإشارة إليه هو أن في بعض الجمل نقصاً واضحاً، وبعض أسماء المواضع مهمل أي بدون نقط، ولذلك كان سبيلنا في الاهتداء إلى معرفة بعض المواضع المهملة من النقط أو الذي يقع في جملة غير مكتملة المعنى هو الاستئناس بالوصف وتحديد المسافة بين كل موضع وآخر يليه.
ولتحري الدقة في تطبيق ما ورد له ذكر من المواضع في وادي الرقب بالمشاهدة فقد أبديت رغبتي للشيخ ناصر بن عياد بن رميح بمرافقتنا لهذا الغرض، فهو أعلم من عرفت من أهل هذه الجهة في معرفة الديار، فما كان منه إلا الموافقة، كما عهدته.
وكان صاحب كتاب ((المناسك)) قد ذكر أن الطريق يمرُّ قبل وصوله حساء وادي الرمة بهضبة فيها شامة بيضاء عن يمين الطريق، وأقول: هذه الهضبة معروفة وتدعى ((الغرّاء))، وسمها من صفتها، وهي محتجبة عمن هو في وادي الرمّة بسلسلة جبيلات سود منقادة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي شرقاً من مدينة "السليمي" وتسمّى "أبا الغبطان" ومن الغراء كانت بداية رحلتنا متتبعين كل ما ذكر من المواضع بالمشاهدة على أرض الواقع، بدءاً من حساء بطن الرّمة، حتى خروج الطريق من وادي الرقب.
دراسة النص وبعض عباراته

أولاً: فالمسافر إذا اجتاز "أبا الغبطان" مغرّباً انكشفت أمامه قرية "العجاجة" على شاطئ وادي الرّمة، وكان لنا فيها وقفة تأمّل، ومن هناك كان يلوح أمامنا في الأفق البعيد جبل أسود مطل على وادي الرقب من الجنوب من حيث هو، وبسؤالنا رجلاً من أهل القرية عن اسم ذلك الجبل قال: "أسمر العِشَار" ومن الوصف وقياس المسافة تأكد أن أسود العُشريات لا يزال معروفاً، وإنه هو أسمر العشار، وإن ما تغير من لفظ اسمه القديم لا يغيّر من المعنى شيئاً. وبهذا يتضح أن قرية العجاجة قد أُنشئت في الموضوع الذي كان يعرف بحساء بطن الرّمة أو بالقرب منه.
ثانياً: ورد في النص بعد أسود العُشريات (أسمر العشار حالياً) بثمانية أميال بئر عذبة الماء، عند شجرة خصبة الموضوع عن يمين الطريق.
وأقول: ثمة بئر قديمة تعرف بالخزيميَّة، نسبة لابن خزيم أحد شيوخ بني رشيد التاريخيين، تقع شمال مجرى الوادي قريبة منه، والوصف والمسافة في هذا النص كلاهما ينطبقان على موقع بئر الخزيمية، وقد أصبح ذلك المكان اليوم قرية تدعى "بدع الرقب"، وفيها الكثير من الخدمات الحكومية.
ثالثاً: ورد في النص بعد مكان البئر (موضع بدع الرقب): وبعدها بأربعة أميال عند البريد ماء وإليه ينسب، وهو محصور، وفيه بناء وآبار عمق كل بئر عشر قامات، وأبيات أعراب من بني مرّة بين جبلين، يقال للأيمن الحديد، والأيسر ذو رأس.
ومما تجب ملاحظته في هذا النص هو:
1-إن اسم الموضع الذي يبعد عما قبله بأربعة أميال، وفيه بناء وآبار – مبتور، ولكن تحديده على هذا الوجه لا يترك مجالاً للشك بأن ذلك المكان هو موضع مزارع "القسمة"، مع امتدادها إلى "أم أرطى"، وهذا الموضع هو مفيض سيل وادي الرقب وروافده عند خروجه من جبل العلم متسعاً في الأرض بعد أن كان محصوراً بين الجبال.
2-عدّ المتقدمون جبل العلم من جبال بني الصارد من بني مرة من غطفان، فهم سكان جبل العلم القدماء: (معجم البلدان: 4/147).
3-ذكر أن الجبلين اللذين بينهما أبيات لبني مرّة يقال للأيمن الحديد، والأيسر ذو رأس. وأقول: لا يزال الجبل الأيسر معروفاً،يقال له أمُّ رأس و"أمُّ" بمعنى "ذات"، قال العبودي: وقد استعاضوا بها في كل كلمة عن "ذات" و"ذو" في كلامهم العامي. أمّا الجبل الأيمن فالحرف الأخير من اسمه مهمل من دون نقط، وغير متقن الرسم، مما يدل على أنه غير واضح في أصل المخطوطة، ولكن الجبل الذي يقابل أمُّ رأس عن أيمن الطريق يسمّى "الجراح"، وكل جانب منه له اسم، ومن أسمائه "أبو سواسي" و"النقب" و"الخُوَيْر"، ويبدو ليّ أن أصل اسم الجبل الأيمن هو "الخُوَيْر"، وأن "الحديد" هو تصحيف للخوير، ثم مع تقادم الزمن تقلّص ليعني جزءاً منه، وحل مكانه اسم الجراح.
رابعاً: جاء في النص: ومن فــصه الرقم إلى الخرب وسي، الخرب موضع فيه بئر كبيرة غليظة الماء، في بطن الوادي على ظهر الطريق.
وفي هذا النص على قصره من النقص في السياق، والأسماء المهملة من النقط والتصحيف ما يدعو إلى إيضاح ما ينطق به حال الواقع على الأرض، وأقول: يظهر أن المقصود من "فـــصه الرقم" بدون نقط هو: "فيضة الرقم"، إما موضع "الخرب وسي" كما في النص فقد نوّه الشيخ حمد الجاسر في هوامش تحقيقه كتاب: "المناسك" أن الاسم ورد في أصل المخطوطة هكذا: "الحرب وشي"، ولكنه – على ما يبدو – آثر كتابة: "الخرب" وفقاً لما في معجم البلدان: (الخرب: موضع بين فيد وجبل السعد على طريق يسلك إلى المدينة). والواقع أن هناك جبالاً على الجانب الأيمن من الطريق يقال لها "الخُرُش" غير بعيدة عن الموضع الذي قبل هذا، وعندها بئر كانت غزيرة الماء، ومتوغلة في القدم تدعى "الرَّنِيْنَه"، ولا استبعد أن "الخرب وسي، أو الحرب وشي" هو الخُرُش.
خامساً: يتكلم المؤلف في هذا المقطع من النص عن منزل الرقم القديم ويقول: وبالرقم قصر وسوق ومنازل ونخل كثير وآبار كثيرة الماء عذبة، ومن الرقم إلى السعد أربعة وعشرون ميلاً.
وهذا المكان من وادي الرقم (الرقب) كان لقرية تحمل اسم المكان (الرقم) وكانت في القرن الثالث من الهجرة منزلاً من منازل الطريق بين (فيد) و(المدينة المنورة)، وقد شهدت في تلك الحقبة من الزمن نقلة نوعية من تطور الحضارة، إذا كان سكانها يمارسون الاشتغال في التجارة والزراعة والصناعة والبناء وإقامة السدود، ما نهض بمستواهم الحضاري وساعد على تنوع مصادرهم الاقتصادية في ذلك الحين.
تلك القرية الغابرة تعرف اليوم باسم "العماير"، وهي مجموعة آثار من المباني المتهدّمة، متناثرة فوق كل مرتفع من الأرض عن مجرى الوادي، وعلى جانبيه بعض الآبار المطوية بالحجارة، ومقبرة كبيرة، وبقايا من السد الذي كان مشيّداً في أعلى القرية، وكل شيء من ذلك يلفت انتباه مشاهده إلى أهمية المحافظة على ما بقى من هذه الآثار، حتى لا تسوء بها الحال على يد من لا يدرك قيمتها التاريخية إلى أسوأ مما تعرضت له من قبل.
لا شك في أن الآثار توضح جوانب كثيرة من حياة أهلها القدامى، في مختلف العلوم الإنسانية اجتماعية كانت أم تاريخية، ولهذا فهي أولى مما تشدّ إليه رحال علماء الآثار والمؤرخين سواء بسواء، لمعرفة الشيء الكثير عن نمط حياة أقوام ذهبوا بالانقراض، ولم يبق لنا من أخبارهم سوى آثارهم في الأرض.
إنّ ما بقى من آثار هذه القرية القديمة سيفتح نافذة من الاهتمام بها ويعطيها مزيداً من الاعتبار لدى علماء الآثار والمؤرخين، ليس هذا فحسب، بل إن موقع هذه القرية كجزء من وادي الرقب الجميل الذي يفري جبال العلم، مع روافده من الأودية الكثيرة التي تأتي إليه من هذه الجبال – يعدُّ من أجمل الأماكن موضعاً في هذا الوادي، وأكثرها إغراء كمنتجع سياحي جميل.
سادساً: وفي آخر النص يقول: (والناصفه على ميلين من الرقم، وهو وادي سلم وطلح.
وقد علّق الشيخ حمد الجاسر على هذا النص وقال: ... إما الناصفة القريبة من الرقم فهناك شعيب في غرب الرقم خارج عن جبل العلم بعد إجتيازه يدعى الناصفه، وهو غير بعيد عن موقع الرقم القديم (العمِيرَة): (معجم شمال المملكة: 3/1303).
وأقول: الناصفه من الأسماء التي تطلق على مواضع من الجبال، فالمسافة التي حددها المؤلف لا تتجاوز خمسة أكيال، وكل شيء من هذا التحديد ينطبق على مدخل وادي الرقم (الرقب) في جبل العلم من الغرب، شاقاً طريقه من هناك بين هضاب حمر، ولعله ما كان يسمى الناصفة قديماً.
وتحسن الإشارة إلى أن وادي الرقم (الرقب) الذي كان في القديم حصناً منيعاً لأهله قد أصبح بفضل الله، ثم في هذا العهد الزاهر ذات قرى مفعمة بالحياة، هي: بدع الرقب، القسمة، أم أرطى، الحواره، النميره، النماره، فيضه المسعار، المرموثة، مع ربطها بطريق مزفلت، ومدها بالخدمات الحكومية من مرافق تعليمية وصحية وكهرباء وغيرها، ولا أبالغ إذا قلت: لو أقيم في أسفل هذا الوادي سد لصار أكبر خزاناً للمياه في المنطقة، وأجدى الحلول الممكنة لحل نقص المياه فيها في المستقبل.

وعن أهل الرقم (الرقب) المعاصرين قال الشيخ حمد الجاسر في كتابه: "معجم شمال المملكة: 589": والرقم الآن قرية لبني رشيد الذين أكثرهم من غطفان. ثم ذكر بعض الأحداث التاريخية الأخيرة التي وقعت في هذا الوادي داخل جبل العلم، قال: (ومن الوقائع الأخيرة ما حدث في عهد سعود بن عبدالعزيز بن رشيد إذ أغار أحد أمرائه ويدعى ابن ليلى على قبيلة بني رشيد()، وهم داخل العلم فهزموه وقتلوا من قومه 1800 رجل، وسمّوا تلك الوقعة "مسعر ابن ليلى" أي مكان استعار النّار في جند ابن ليلى).
وقد حدث قبل هذه الوقعة أن أغار سلطان الحمود بن رشيد على قبيلة بني رشيد، وهم في العلم وحوله، وقد ذكر العبيّد في مخطوطة كتابه: "النجم اللامع: 273" هذه الغارة ضمن حديثه عن قبيلة بني رشيد بعد أن ذكر قسمهم الآخر في الكويت، وقال: (والقسم الثاني منازلهم بين حائل والمدينة، وهم من بني رشيد أيضاً، ولهم أودية فيها نخيل منها ما يسمّى(ضرغط)، ومنها (الحائط، والحويّط) وهي التي تسمّى (فدك) في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الحليفة وكانت هذه النخيل شركة بينهم وبين عنزه، وكل منهم يعرف ما يخصه منها، وكانوا معروفين بالركاب الأصيلة شديدة العدى، وربما أنها تجاري الخيل بسرعتها وكلهم يقال لهم بني رشيد، ولهم رؤساء، فمن رؤسائهم بن برّاك وابن شميلان وابن حمود وابن رفادان وغيرهم، وكانت منازلهم بالوسط بين حرب ومطير وعنزه، فكانوا يحمون أنفسهم من كل القبائل، وحدث أن أغار عليهم سلطان الحمود بن رشيد في ولايته على حائل سنة 1325هـ فهزموهم شر هزيمة وقتلوا على ابن رشيد رجالاً وخيلاً وركاباً فألجه الظمأ فورد على ماء يسمى النقره من مياه العلم، وهو الجبل الذي تنزل حوله بنو رشيد ويقول شاعرهم في تلك الوقعة:


يا جراد طار ما وقّع


ورّد النقره يبَى ماها

كم ذلولٍ وسمها مطقّع


فوقها الكفّه وسمناها

كم جوادٍ دمّها نقّع


في غميق الروح صبناها

أقفى عنّا معيفاً ومودّع


حتى خيامه والحمله كسبناها



وإمّا قوله: كم ذلول وسمها مطقّع أنه وسم الرشيد كل من رآه ضارط من الخوف منه، وقوله: فوقها الكفّه وسمناها والكفّة وسم قبيلة بني رشيد) انتهى.
وقد ذكر الشيخ العبودي في رسم (النقرة)() خبر هذه الوقعة وأورد أبيات القصيدة فيها على هذا النحو:


يا جراد طار ما وقّعْ


ورّد النقره يبَى ماها

كم ذلولٍ عليه مطقّعْ


وسمنا الكفّه وسمناها

كم رُحُولٍ حِسّها طنّبْ


لجّتْ الضلعان برغاها

كم هنُوفٍ نهدها مصقّعْ


طشّتْ البخنق بيمناها



وتروى هذه الأبيات عند بني رشيد في الغالب على هذا الوجه:


يا جراد طار ما وقّعْ


ورّد النقره يبَى ماها

قال: وقّعْ قال: ما وقّعْ


دِيْرتي وابعد ممساها

يوم حضرم() وسّطهُمْ صقّعْ


بَندقَه وازِيْنْ مَرْمَاها

كم ذلولٍ وسْمَها مطقّعْ


فوقها الكِفّهْ وسمناها

وكم رُحُولٍ حِسّها طَنّبْ


لجّتْ الضلعان برغاها

وكم جوادٍ دمّها نَقّعْ


من غَمِيْقْ الرّوح صبناها



لقد قالت المصادر المحايدة كلمتها في وقعتي (العلم) و(النقرة) بما فيه الكفاية، وإن جازلنا أن نزيد شيئاً ففي التنويه إلى أنهما قد وقعتا في الوقت الذي بدأ فيه بنو رشيد يستعيدون وحدة كلمتهم بعد هجرة الكثير من فروعهم في العصور المتأخرة، خارج شبه الجزيرة العربية.
2-جبل قنا: لا يزال معروفاً وشهرته تغني عن تحديده، وبجنبه جبل قُني تصغير قنا، وكان في القديم يقال لهما قنوان، أحدهما لبني فزارة والآخر لبني مرة()، قال البكري: ويضاف إلى قنا أبارق – جمع أبرق – قال نُهَيكة الغطفاني:


عُصَبٌ دَفَعْنَ من الأبارِقِ من قنا


بجنوب رخّه فالرخاخ فَيَثْقُبِ



وأورد ياقوت: لمسلم بن قرط الأشجعي:


تَطَربّنِي حُبُّ الأَبَارِقِ من قَنَا


كأنّ امْرأ لم يَجْلُ عن دَارِهِ قَبْلِي

فَيَا لَيْتَ شعرِي هل يعيقه سَاكِنٌ؟


إلى السعد؟ أمْ بالعواقِرِ مِنْ أهل؟

فَمَن لامَنِي في حُبِّ نجدٍ وأهلِهِ


وأن بَعُدَتْ دَارِيْ فلِيْمَ على مِثْلِي

على قُرْبِ أعْدَاءَ ونَأى عَشِيْرةٍ


وَنَائِبةٍ نَابَتْ من الزّمنِ المحلِ



وقال ياقوت(): وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ... وقف نُصَيب على أبيات واستسقى ماء فخرجت إليه جارية بلبن أو ماء فسقته وقالت: شبّبْ بي، فقال: وما اسمك؟ قالت: هند، فنظر إلى جبل وقال: ما اسم هذا العلم؟ قالت: قناً، فأنشأ يقول:


أحبُّ قناً مِنْ حُبِّ هِندِ وَلَمْ أكُنْ


أُبَالِي أقُرْباً زاده الله أمْ بُعْدَا

أَلا إنّ بالقَيعَان من بَطْنِ ذِي قنا


لنا حَاجَةٌ مَالَتْ إليه بنا عَمْدَا

أَرُوْنِي قنا أنْظُر إليه فإنّني


أَحِبُّ قنا أنِّي رأيتُ بِهِ هندا



قال: فشاعت هذه الأبيات، وخطبت الجارية من أجلها، وأصابت الجارية خيراً بشعر نُصَيب فيها.
وأورد أبو علي الهجري قول الشاعر:


أَلا إنّ برقاً لاحَ بَيْنَ مُحَجَّرٍ


وبين اللِّوَى بَرْقٌ لِعَينِيَّ شَائِقُ

سقى روضة الأجداد أَوّلُ وَبْلِهِ


وآخِرَهُ يَسْقِي حَلِيُّ الشقائِقِ

لقد أَنْزَلُونِي مِنْ عُوَارِضتي قَنَا


مَنَازِلَ مَا قَلْبِيْ لَهُنَّ بِلائِقِ

ترى أدبيّا – يا لك الخير – حائلا


وركن قَنَا من دون هَضْبِ الورائِقِ



فروضة الأجداد:- الروض- وأدَبِيّ وقنا وهضب الورائق كلُّها مواضع إلى الغرب من قنا، لا تزال معروفة ماعدا هضب الورائق. والورائق؛ لغة: السواد، فالأورق من الإبل من في لونه بياض وسواد، قال الهجري: وهضب الورائق بين فدك (الحائط) وبين قنا عن فدك بميلين. ومن هذا التحديد أصبح من اليسير معرفته، إنّه الهضب الذي يتوسطه جبل أثقب (يثقب قديماً)، فيجعله قسمين: قسماً يقع شماله ويسمّى الهضب، والآخر جنوبه، ويدعى حمر الحليفة العليا، ويظهر أن اسم الورائق لهذا الهضب قديماً كان مشتقاً من صفة اختلاط لونه الأحمر بلون جبل أثقب الأسود، الذي هو في الواقع جزء من امتداده الطبيعي.
وقد ورد ذكر قنا وقُنَي في الشعر الشعبي الحديث، قالت شاعرة من بني رشيد:


يا ذِيْبْ مَا شِفْتْ نَشر خليلي؟


على قَنَا وَقْنَيّ دَاجَتْ رَعَايَاه

وَادي الرّمَهْ مِنْ دَمع عَيْني يَسيلِ


ورَاعِي الْحْلَيْفَه يَزْرَعَ الحبِّ مِنْ مَاهْ

يالليْ بَذَرتَ الْحَبَّ قَلْبكْ هَبِيْلِ


يَابَاذْرٍ حَبٍّ على غَيْرِ مَجْرَاه



وفي معجم شمال المملكة: وقنا أهله سكان قرية السُّلَيْمِى من بني تميم. وقُنَيُّ لقبيلة بني رشيد، والجبلان بقرب قرية السليمى.



توقيع سعد الرشيدي
(((مواضيعي المختارة ويشرفني مروركم لها)))


ويشرفنا متابعة قناة بني عبس على الرابط التالي