أسباب الجحود والإنكار
"إن الذين جادلوا في الله بغير علم شرذمة آثمة سيطرت عليهم الشهوات الدنيئة فبرروا سقوطهم في حمأة الرذيلة بالإنكار حتى لا يسألهم أحد ولا يسألوا أنفسهم فيظلوا في لهوهم الحقير سائرين وفي الملذات الحيوانية منهمكين .
لهذا لم يكن كل قصد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام متجها إلى إثبات وجود الله تعالى فهذا أمر فطري ومسلم به وإنما كان جل قصدهم تصفية العقيدة في الله تعالى مما شابها من أدران الشرك وضلالات الوثنية.
وإن الدلائل على وجود الله تعالى أسطع من الشمس في رابعة النهار فلماذا نرى من يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر والحقيقة أن أسباب جحودهم ترجع إلى أسباب كثيرة أهمها :
الإغراق في الماديات ، والانهماك في الشهوات:
فمن الأسباب الأساسية الحاجبة عن الإيمان هو الانحصار في دائرة المحسوسات التي يعيش فيها الأطفال الصغار لأنهم يقولون: إذا كان الله موجودا فلماذا لا نراه بأعيننا ولا ندركه بحواسنا ، كما نرى وندرك سائر المحسوسات وكيف يصح أن نؤمن بما لا نراه ، وهذا الحكم باطل وساقط في نظر الإنسان الذي استعمل عقله وفكره لأن حصر الموجودات فيما يرى الإنسان ويحسه فقط رأي فاسد فهناك موجودات كثيرة لا تحس ولا ترى كما أن تحصيل المعرفة عن طريق الحس فقط وهم وضلال لأن من وسائل المعرفة البدهية : الفطرة والعقل والنظر والبصيرة والوجدان.
فإن علماء الفلك يقدرون وجود كواكب بعيدة عنا بملايين السنين الضوئية ويحددون مواقعها والأبعاد بين بعضها البعض بدون رؤية واضحة بالحس والمشاهدة ولكنه الاستدلال بالأثر على المؤثر، فهم قد وصلوا إلى معرفة هذه الكواكب البعيدة بآثارها لا بذواتها ، فلمَ نسلم لهم ونؤمن بما لم يروه ولم يحسوه؟ مع أنهم عرفوا ذلك بالمنطق الرياضي الذي يعتمد على الأرقام والاستنتاج العقلي ، وكذلك علماء الذرة الذين استخدموا قوانين الطاقة مع أنهم لم يروا الذرة حتى الآن ، وإنما آخر ما وصلوا إليه أنهم رأوا ظلها أو خيالها بالمكبرات الهائلة.
وهكذا في الكهرباء وغيرها من الأمور الكثيرة التي صدق العلماء بوجودها مع أنهم لم يروها رأي العين ، فلمَ نصدق بهذا الاستدلال العلمي وما فيه من الاستدلال بالآثار في مجال علوم الطبيعية والفلك ولا نصدق به ونستخدمه في وسائل المعرفة بأمور الدين والآخرة .
التقليد الأعمى البغيض :
والتقليد الأعمى من أسباب الكفر والضلال لأنه يفقد الإنسان عقله وشخصيته ويجعله يفكر بتفكير غيره ويعيش إمعة لا رأي له يؤمن بما آمن به آباؤه وأهل بيئته ، ويسلم زمام نفسه إليهم ، فيهوى في جحيم الحيرة والشكوك ويتردى في عذاب الخزي والحرمان ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ } سورة البقرة : آية : 170وبين لنا سبحانه حال زعماء الكفر وتابعيهم يوم القيامة بقوله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } سورة البقرة ، آية : 166/167
العناد والغفلة :
ومن أشد هذه الحجب وأجلها خطرا العناد والغفلة لأن الأدلة لن تقنع هؤلاء المعاندين الذين يصمون آذانهم لئلا يصل إليهم صوت الحق ويغمضون أعينهم لئلا تبصر نور المعرفة ويقفلون قلوبهم وأفئدتهم لكيلا تمتد إليها أضواء الإيمان الساطعة ، فهم يجادلون بالباطل لا ليعرفوا الصواب وإنما هي المكابرة والجحود وقد كشف الله حقيقتهم .بقوله جل جلاله : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } سورة الإنعام ، آية : 28
أي ولو ردوا إلى الدنيا كما يزعمون لرجعوا إلى الكفر إطاعة لأهوائهم ، وانهم لكاذبون في ادعائهم الإيمان لو عادوا إليها فجدالهم إنما هـــو للباطل والعناد.
قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِير.ٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }سورة الحج ، آية : 8
لقد ظهر عناد الكفار والمشركين الضالين فطلبوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء فيلمسوه بأيديهم ويسمعوا كلام الملائكة الذين يشهدون بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم فرد الحق تعالى على ضلالاتهم وإفكهم بقوله سبحانه:{ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } سورة الأنعام ، آية : 7
وبين سبحانه عنادهم ومكابرتهم بقوله سبحانه وتعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } سورة الحجر ، آية : 14 وبذلك يتبين لنا أن كل الأدلة لا تكفي لإقناع من سفه نفسه وأغلق قلبه وأصر على العناد والكفران وإن كل شيء في الأرض أو في السماء حولنا لهاد لمن يريد الوصول إلى سبيل الحق والاهتداء إلى طريق النجاة ومعرفة الواحد الأحد الذي ظهر في خلقه بآيات إبداعه وإتقان صنعه ، قال تعالى : { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } سورة الذاريات ، آية : 21
ولله في كل تحريكــــة = وفي كل تسكينة شـــاهد
وفي كل شيء له آيـــة = تدل على أنه الواحــــد
1
2 ولـلـه فــي كــل تـحـريـكــة ii وفـي كـل تـسـكـيـنـة شـاهـد
وفـي كــل شــيء لــه آيــة ii تــدل عـلــى أنــه الـواحــد
وكذلك الغفلة التي طمست عقول بعض الناس وأصابت مداركهم بالشلل وقلوبهم بالعمى فعطلت الفكر والمعرفة لديهم فكان كل مقصدهم إرواء الغرائز وإشباع الشهوات والتمتع بأنواع المتع الحيوانية كالأنعام.
وهؤلاء قد بينهم الله تعالى بقوله :{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } سورة الأعراف ، آية : 179
فحقا هم أضل من الأنعام السائمة ، لأن الأنعام لم توهب من العقل والمعرفة وسائر النعم ما منحوا، ومع ذلك فهي تقوم بوظيفتها التي خلقت لها ولا تنازع ولا تغفل عن أداء مهمتها فالإنسان الغافل عن معرفة ربه هو شر من الدواب وأقل منزلة وأضل سبيلا من البهائم لأنه غفل عن سر الله فيه ولم يستعمل عقله وفكره فيما خلق له في هذه الحياة الدنيا." اهـ