تحية للمستشار مصطفى عبد الجليل... ولكن!!
بقلم: فرج بوالعَـشّة
عندما قرأت في الأخبار أن المستشار مصطفى عبدا لجليل أصبح أو قلّ قَبَل ان يكون أميناً للجنة الشعبية العامة للعدل، تملكتني الدهشة. ومصدر دهشتي تعود إلى معرفتي به. علاقتي الشخصية به جد سطحية. كنتُ مراهقا عندما كان شابا ولاعبا ماهراً في كرة القدم في نادي البيضاء الذي فُرض عليه أن يغير تسميته إلى نادي الجبل الأخضر. ثم صار يُعرف بـ "الأخضر".
كانت شخصيته، منذ صغره، تفرض احترامها على كل من يحيط به. وكان معروفاً عنه صرامته في قول الحق والدفاع عنه إلى درجة وصفه بالعصابية. وهو لم يترك هوايته المحببة (كرة القدم) إلا بعدما صار قاضيا. وكما كان شخصا نزيها في قول ما يريد والدفاع عنه بكل شراسة، كذلك مارس مهنته في القضاء. حتى صار معروفا عنه أن الحق لا يضيع عنده. ومعروف حكمه، العام 1992، في قضية استقطاع مبلغ مائتي دينار من رواتب الموظفين ثمناً لبندقية، والتي حكم فيها لصالح المدعي باسترجاع المبلغ مع تعويض بمائة دينار ودفع المصاريف وأتعاب المحاماة وشمول الحكم بالنفاذ المعجل. وقد جاءت حيثيات الحكم لتفضح، رغم بساطة القضية المطروحة، هراء القذافي الآيديولوجي بشأن إطروحة "الشعب المسلح". وتنقض توجيهاته الفوقية التي تُنفذ وكأنه تعاليم مقدسة. ورغم هامشية موضوع القضية وبساطة الحكم الصادر ضد جهة إدارية، إلا أنها عبرت ولا شك عن موقف ضميري شريف، له دلالته الوطنية حتى عن دون قصد، من طرف رافع الدعوى محمد صالح علي ـ موطنه المختار مكتب المحامي عيسى صالح أبوغزالة ـ الكائن بشارع العروبة ـ البيضاء، ومن طرف القضاء النزيه، متمثل في القاضي المستشار مصطفى عبد الجليل. كما أن القضية كشفت، من جانب آخر، مدى سطوة الخوف المسيطر على نفوس الليبيين، بحيث أُعتبر، وقتها، إقدام "مواطن" ليبي على رفع دعوة في شأن يمس توجيهات "القائد" ضرباً من الشجاعة المتهورة من جهتي المشتكي والقاضي العادل... وبعد ذلك تجرأ آخرون على رفع قضايا أكثر حساسية سياسيا، وأبرزها الموقف الوطني الشجاع الذي أتخذه بعض أهالى ضحايا مذبحة بوسليم، من خلال مطالبتهم عن طريق القضاء النزيه بكشف الحقيقة كاملة، ومن ثم إجراء القصاص العادل من المجرمين القتلة.
ودون الاستطراد في تبيان خلفية استقامة السيد مصطفى عبد الجليل فإنه بمجرد قبوله بتعينه "أميناً" ينطرح السؤال الوطني: هل يستطيع شخص نزيه أن يُحافظ على نزاهته في حكومة يُحرّكها القذافي كأنه يُحرّك خيوط مسرح عرائس. وهل تم اختياره بناء على سمعته القضائية الشريفة فقط؟! ولكن هل يستقيم عمل الشريف تحت سلطة طاغية، يبغض أشد البغض قيم الشرف والاستقامة والأمانة والعدل...؟! أم جاء تعينه مغازلة للبراعصة، واختياراً من صفية "البرعصية" وأبنها سيف الإسلام "بناخي" البراعصة؟!
الواقع كان اختياره خلطة من هذا وذاك. فهو "برعصي" من ناحية ومستشار قضائي شريف وشجاع من ناحية أخرى، ومناسب لتنزيه صورة الابن الوريث، "الإصلاحي/ النزيه/ الشفاف". لكن على أي أساس قبل السيد المستشار أن يكون في مثل هذا المنصب؟!
من المؤكد بالنسبة لي ولكل من عرفه جيدا أنه أبعد ما يكون عن أن يؤدي دور المسخ مثله مثل أمساخ "أمناء" اللجنة الشعبية العامة. ولا بد أنه قبل المنصب بدافع العمل في سياق الأداء الوظيفي النزيه. وربما يرى الكثيرون من موقع المعارضة الجذرية أنه ربما قد يكون فقد مصداقيته بمجرد قبوله أن يكون مسخا من الأمساخ. والحديث لا يدور هنا عن موقف معزول، غالبا مصطنع، لأحد أمساخ حكومة القذافي، إنما عن رجل ذي سمعة مستقيمة، قبل، لمعطيات ما، أن يكون على رأس أمانة العدل في ظل طاغية سفيه لا يقيم وزنا للعدل أو القانون. ولأن المستشار مصطفى عبد الجليل رفض أن يكون إمعة أو شماعة ظهر واضحا كيف كان معظم خطاب العقيد القحصي موجها ضده. إذ من يجرؤ أن يقاطع كلام الطاغية ويبين موقفه بشجاعة، ويعلن عن تقديم إستقالته علنا وبإرادته. حتى أن الجلادة هدى بن عمر وصفته ضمنيا بأنه يتصرف بمنطق وزير وليس أمين.. وهي لا تدري أنها بذلك تكرمه. فقد تصرف المستشار مصطفى عبد الجليل كمسؤول عن العدل وفق القانون المتاح وليس وفق مزاج القذافي.
والحال أن الرجل قال كلمته بشجاعة غير معهودة لدى "أمساخ الأمناء" الخدم قراط للقذافي وعائلته. ولأن القذافي كائن مزاجي متقلب بامتياز، فمن الغير المعروف على وجه اليقين ما قد يطال المستشار الشجاع من عواقب حقده المريض. لذلك فليس أمامه، في رأي، ألا الإصرار على استقالته، وعلى البراعصة أن يساندوا رجلهم. فلا مكان في حكومة القذافي لرجل شريف. وإذا تراجع المستشار عن استقالته واستمر في منصبه، فإن القذافي سوف يعمل بطرق مختلفة من أجل توريطه وإذلاله، كي يجعله مسخا مثله مثل أمساخ التكنوخدم، المسمون أمناء، وهم في واقع الأمر إجراء أذلاء في خدمة رغبات القذافي وعائلته وعشيرته.
والشاهد أن "أمانة العدل" ليست سوى منشفة بيد القذافي لمسح آثار جرائمه. وقد أوتي بالسيد مصطفى عبد الجليل للتغطية على تلك الجرائم، خصوصا مذبحة "بوسليم"، وتمييع مطلب الحقيقة والعدالة الذي يرفعه أهالي الضحايا ومنظمات حقوقية خارجية. وبالتالي لا يستقيم له أن يكون أميناً نزيهاً للعدل، بينما شرفاء ليبيا يُهلكون في سجون القذافي. ولا يُعرف شيئا عن مصير المختطفين والمغيبين قسريا. دع عنك الجريمة / المذبحة في سجن بوسليم، حيث القاتل المعروف لدى الجميع، أي القذافي، هو السلطان المتسلط فوق القانون والقضاء. والحال أنه إما أن يتمسك السيد مصطفى عبد الجليل باستقالته من نظام الجور والفجور ويكسب نفسه وضميره وتقدير الوطنيين الشرفاء له، أو أن يتراجع عنها وينخرط في لعبة النظام، ولن يُعفى عنذاك من مسؤولية الصمت على جرائم النظام.