|
الشاب الذى أبكاني لليلة العيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : ففي ليلة عيد الفطر المبارك , من العام الفائت , وفي غمرة الفرحة بالعيد , وإرسال واستقبال التهنئة , والدعوات بالقبول , وقد كنت خرجت من لقاء طالما تشوقت له , وبقيت آثار البهجة لتحققه تملأ قلبي , وترتسم على محياي , وبينما كنت أهمُّ بإجراء مكالمة عبر جوال الاتصالات , الذي قطع على نفسه عهداً أن يكون أحد منغصات العيد , بضغط الشبكة , وتعثر مرور المكالمة , وغير ذلك مما حفظناه من العبارات لكثرة ماسمعناه .
في هذه الأثناء , اتصل بي شاب , أفادني أنه من مكة , وبارك لي بالعيد , وكرر الدعوات بالقبول , واستأذنني بسؤال حول زكاة الفطر , ولكن حقيقة لم يكن سؤاله سؤالاً عادياً , بل كان زلزالاً فجَّر مدامعي , وألهب سياط الألم في نفسي , وتوقفت من خلال سؤاله عند محطات كثيرة , نسيت بسببها فرحة العيد , ونسيت كلَّ ماكان أبهجني قبل ذلك , وجعلت أتأمل وأتألم .
جاء سؤاله وهو بهدوء غير مُتكلف , ولم تتقدمه آهات مصطنعة , بل ولم يُتبعه بغير الشكر والدعاء .
قلت في نفسي , وهو يلقي سؤاله , وهل بلغ بنا الحال إلى هذا الحدِّ!! ؟ .
آهٍ , ثم آهٍ , ثم آهٍ , فما أشدَّ مرارة الضعف , وما أعظم حرارة الحرمان , ولكن إن غابت عن هذا وأمثاله أعين البشر , فلن تغيب عين الله عنهم , ولا عن من أحوجهم لمثل هذا .
قال لي الشاب بالحرف الواحد : أنا شاب أعيش لوحدي , وأريد أن أخرج زكاتي , فلمن أعطيها , وهل يجوز إخراجها متفرقة ؟ .
سألته ولماذا تخرجها متفرقة ؟ .
قال : لأني لا أملك - وهذا كل ما أملكه في حياتي - إلا عشرون ريالاً .
قلت له : يا أخي أنت ممن تُدفع له الزكاة , وأنت أحق بها من غيرك .
ثم سألت عن محل إقامته , وعن بعض جوانبه الشخصية , وعن استعداداته للعيد , فأجابني : الحمدلله ملابسي زينة .
أغلقت الهاتف , وركنت سيارتي على جانب الطريق , فأجهشت في البكاء , حتى غلب على ظني أنني أستطيع مواصلة السير , ثم اتصلت بأحد الفضلاء في مكة , وطلبت منه أن يتصل بهذا الشاب , ويقابله فوراً , وينظر في أمره , وهذا ماتمَّ بالفعل , وقابله خلال ساعة من اتصاله به , ويالهول المفاجأة !! .
يقول : رأيت شاباً حييَّاً مبتسماً قنوعاً متعففاً .
يقول : سألته هل تريد شيئاً ؟ , فأجاب : الحمدلله أنا بخير .
هل تملك شيئاً ؟ , فأجاب : عشرون ريالاً .
هل اشتريت شيئاً للعيد ؟ , فأجاب ملابسي تكفي .
يقول صاحبي : ما أعجب هذا الشاب , الفقر ظاهر عليه , والغنى يملأ منطقه , وصدق الله ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) .
هذا خبر ذلك الشاب , فما هي المحطات التي تنقلت فيها , وتوقفت عندها ؟ .
المحطة الأولى : تُرى كم ننفق من أموالنا ليلة العيد في المباحات , وكم ننفق في المكروهات , وكم ننفق في المحرمات , أليس هذا الشاب وأمثاله أولى بتلك الأموال من تلك الأوجه , حتى المباح منها ؟ .
المحطة الثانية : كم نصرف لأبنائنا في شراء المفرقعات المؤذية المزعجة الخطرة , ونتباهى في شراء أخطر الأنواع , وأكثرها أذية وإزعاجا , أليس هذا الشاب وأمثاله أحقُّ بهذه الأموال التي نصرفها في لهو باطل ؟ .
المحطة الثالثة : أليس هذا الشاب وأمثاله أحق بأن تعاد لهم البسمة من المترفين الذين يدفعون المبالغ الطائلة لحضور حفلة غنائية , أو عرض سينمائي , أو مهرجان لهوي صاخب ؟ .
المحطة الرابعة : من المسؤول عن هذا الشاب وأمثاله , ولماذا لاتتظافر الهمم لتوظيفهم ؟ , وأيهم أولى بالتوظيف هذا الشاب وأمثاله , أو الفتاة في أماكن مختلطة ؟ .
المحطة الخامسة : إلى من يفرح بالعيد , ويبالغ في الفرح , وينفق لأفراح العيد عشرات الملايين , لإحياء الحفلات الغنائية , والمسرحيات , وغيرها مما لايخلو من منكرات غالباً , أليس هؤلاء الشباب أولى بأن يفرحوا كما تفرحون ؟ , وهل راعيتم حالتهم النفسية وهم يرون هدر الأموال , في حين يتضورون جوعاً ؟ .
المحطة السادسة : كم في هذا المجتمع السعودي المسلم من أخلاق نبيلة , وأمثلة صادقة صفية , فهذا الشاب على قلة يده يحب أن يتقرب إلى الله , ويحب أن يُسعد غيره , فلماذا يُغيب الإعلام هذه النماذج , ولايعرض علينا في غالب وسائله , إلا نماذج تسيء غالباً للمجتمع السعودي ؟ .
المحطة السابعة : ترى لو جنح هذا الشاب للفساد أو العنف أو التطرف , أو أي مسلك خاطىء , فهل ستلام مناهجنا , أو مدارس التحفيظ , أو الخطباء والدعاة , أو المخيمات الدعوية , أم أن اللوم يقع على من يعلم أن في المجتمع آلاف الشباب والفتيات والأسر المعدمة , ومع هذا فهو مشغول بقراءة روايات فحيج , وسخافات صاحب فسوق , والتقديم لروايات الغزل والفسوق والرذيلة ,ومشغول بإقحام المرأة في تخصصات مختلطة !! .
المحطة الثامنة : أين مجلس الشورى عن دراسة هذه المشاكل , ووضع الحلول لها , أم اكتفى بالتصفيق الحار لوزير العمل , ورضي منه برضاه عنه , وكأن القضية " شد لي وأقطع لك " ؟ .
المحطة التاسعة : أين البطانة عن نقل مثل هذه المآسي ؟ , لا سيما وهي لايغيب عنها شيء مما يدور داخل المجتمع , فالذي أقدربعضها على نقل مالايحسن نقله , لن يُعجزها عن نقل مايجب نقله للحاكم وأهل المسؤولية , فإن ذلك وربي من أعظم الأمانة والمسؤولية .
المحطة العاشرة : لو أن هذا الشاب وأضرابه كرهوا هذه البلاد , ألسنا سنطلق ألسنتنا في ذمهم والنيل منهم ؟ , إذن فلماذا لا نشعرهم بقيمتهم فيها , ونحفظ لهم حقهم في حسن الانتماء إليها , ونخصص لهم جُعلاً من الخيرات التي استودعها الله فيها ؟ .
المحطة الحادية عشرة : أي هؤلاء أصدق في الولاء , وحسن الانتماء , هذا الشاب وأمثاله , ممن أحب بلده , وآثر أن يبقى فيه رغم قلة ذات اليد , أم من هجر بلده بحثاً عن الرفاهية , أو هروباً مما يصفه بالتعقيد والتشدد , كالفارين إلى دبي أو غيرها من البلدان ؟ .
المحطة الثانية عشرة : لقد ضرب هذا الشاب المسكين أروع الأمثلة , وأصدق الأدلة , على بطلان من زعم نفور الناس عن أهل الخير والدعاة , حيث لم يمنعه ضعفه وعجزه وفقره , من السؤال والاتصال , طلباً للحكم الشرعي , والتوجيه الذي تبرأ به ذمته , وهو إن كان جاء إليَّ وأنا من أقلهم وأضعفهم , فما ظنك بمن يذهب إلى من هو أصدق مني لهجة , وأعظم منزلة , وأكثر نفعاً ؟ .
هذه بعض المحطات التي أسعفني الوقت لذكرها , وفي النفس شيء كثير , يمنعني عن ذكره كثرة المشاغل , والرغبة في عدم الإطالة , لكني أعدكم بأن أفصح عنه في وقت أوسع , ومجال أرحب .
اللهم اهدِ ضال المسلمين , وعافِ مبتلاهم , وفكَّ أسراهم , وارحمموتاهم,واشفِ مريضهم , وأطعم جائعهم , واحمل حافيهم , واكسُ عاريهم , وانصر مجاهدهم , وردَّ غائبهم , وحقق أمانيهم .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ,والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه , ولاتجعله ملتبسا علينا فنضل .
اللهم أصلح أحوال المسلمين وردهم إليك رداجميلا .
اللهم أصلح الراعي والرعية .
هذا والله أعلى وأعلم , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
وكتبه
توقيع عويض بن شامان بن خلف |
|
|