لقد حاولنا لسنوات عدة الحصول على دراسة واقعية تصف وقائع حياة الأعراب الرحل و تراثهم , و في الواقع نجحنا في ختم عقد كتابة مثل هذا البحث مع أكثر من مؤلف , غير أن كل هذه الجهود قصرت عن هدفنا بسبب وفاة بعض المؤلفين الذين وعدونا بتحقيق هذا الهدف , أو بسبب تضاؤل اهتمام بعض الباحثين الآخرين بالموضوع و رجوعهم إلى مهامهم الأخرى , و لكن في النهاية أتى (وليام يانج) لإنقاذنا . و قد أستفادت منه هذه السلسلة في الأبحاث الإنسانية , كما استفاد منه كل الأساتذه و الطلبه الذين يستخدمون السلسلة .
و إن البحث الذي سماه الدكتور يانج (بدو الرشايدة : الرحالة العرب بشرق السودان) لدراسة نابغة تدخل القاريء إلى عالم الرشايدة و توضح عن هذا العالم بتفاصيل حية عن الشؤون العائلية داخل الخيمة , كما تعطي صورا أكثر للمجتمع في داخلها , و أيضا تبين لنا هذه الدراسة عادات و تقاليد مراسم الحياة اليومية عند الأعراب التي تبدو للقاريء الأمريكي بأنها بالغة التهذيب و فائقة العادة في تعقيداتها و ما تتركه العادات الشعبيه من أثر في المعاملات الاجتماعية جديرة في التأمل و الدراسة .
و حياة (الرشايدة) يتم وصفها من وجهة نظر شخص عايشها فعليا , فقد تعلم (بيل يانق) لغة الرشايدة العربية و ارتدى ملابسهم و أصبح لفترة وجيزة عضوا من أعضاء إحدى العائلات الرشيدية كما تعلم الاستجابة للأحداث و المشاكل كواحد من رجال الرشايدة , و عند قراءة هذا البحث يشعر المرء في بعض الأحيان بأن وصف حياتهم قد تم بواسطة شخص رشيدي الأصل و ليس بواسطة مؤلف أمريكي غريبا عليهم . و هذا الانطباع يتأكد عندما يصطدم القاريء بالتحليل المتطور للرموز الظاهرة في سلوك الرشايدة .
و يعلل الدكتور (يانج) بأن أي حركة جسمية - و لو بسيطة - تدل على رسالة مفهومة اجتماعيا , و على سبيل المثال استلال الرجل سيفه من غمده و تعديل المرأة وضع برقعها و تحديد موقع الخيمة وسط مضرب الأعراب , كلها حركات تحمل رسائل ذات معان معينة مثلما تنطوي الجملة المنطوقة على معنى معين , و قد استكشف المؤلف هذه الرموز الكامنة في السلوك اليومي بعين ثاقبة و بعقل مدرب على منهاج البحث الأنثربولوجي , فأظهر لنا نسيج حياة البداوة بكل تعقيداتها و رسمياتها و هي حياة مفعمة بمراسم التقدير و الاحترام , بالإضافة إلى استكشاف بعض المسائل الأساسية المتعلقة بعملية تكيف (الرشايدة) مع البيئة .
و من المؤكد أن البيئة التي يتحركون فيها ليست من أحسن بيئات العالم ترحيبا بالإنسان , إذ أن أكثر الأيام في السنة تسودها الحرارة و الجفاف , كما أن حيوية النبات في هذه البيئة ضئيلة و لا تظهر الخضرة , و المطر إلا في موسمين قصيرين . و الذي يريد أن يبقى على قيد الحياة يحتاج إلى التخطيط الدقيق و الحكمة و البصيرة و الفهم الجيد للبيئة بكل متغيراتها .
فالأغنام و الإبل التي تمثل مقومات المنافع الاقتصادية لبدو الرشايدة تسترعي اهتمامهم و العناية بها جيدا , حتى لا يفقدوا مصدر رزقهم من الحليب و اللحم و الصوف و غير ذلك , و هم ليسوا رعاة إبل و بدو رحل فقط , بل إنهم يزرعون بساتينهم في الخلاء , أيضا في الأماكن التي يسقط بها رشاش المطر المتقطع , فيجهزون التراب و يزرعون البذور و يحصدون المحاصيل بخطوات متزامنة مع مرور المواسم الزراعية المختلفة . و تحتاج إدارة جميع هذه الأنشطة الإنتاجية إلى كثير من الخبرة و الإمكانات لدى الرشايدة بالكثرة .
و يبدوا لنا أسلوب حياة عند (الرشايدة) عاديا من ناحية و غريبا من أنحاء أخرى , كما هي الحال بالنسبة إلى كل أساليب الحياة في المجتمعات الإنسانية المختلفة , فالرشايدة يختلفون عنا - بصرف النظر عن مسألة تحديد هويتنا نحن القارئين (عرب أو أمريكان) - و لكنهم مثلنا في كونهم يواجهون نفس مشاكل الحياة , مثل الجهد من أجل الأمن و توفير لوازم الحياة المادية و جهود تربية الأطفال و تعليمهم الفرق ما بين الصح و الخطأ . و كذلك محن الأمراض و مفارقة الأحباب , و يواجه (الرشايدة) هذه المشاكل بوسائلهم الخاصة التي تختلف عن الوسائل الموجودة في مجتمعنا المتحضر و مع ذلك بإمكاننا أن نفهمها .
و الواقع نستطيع أن نقدر الوسائل الفريدة التي يتبنونها لمواجهة مشاكل الحياة , و لو كانت غير مألوفة , و لا ريب في أن هذه الدراسة الواقعية تعد مدخلا لأغلب أساتذة العلوم الإنسانية في تدريسهم هذه العلوم و محاولة إيصالها إلى طلبتهم بشكل أفضل , و بالتأكيد فإن الاختلافات الثقافية بين الجماعات البشرية المتعدده لا تبخس شيئا من إنسانيتها المشتركة , بل تجعلها أكثر إثارة و إعجابا .
نحن سعداء لإدراج (بدو الرشايدة) ضمن سلسلة الكتب التي نصدرها و نطلب من القراء أن يولوها قراءة متأنية , لما لها من قيمة متنوعة في شتى فنون الثقافة و دروب المعرفة الواسعة .
جورج سبندلر و لويز سبندلر
محققا سلسلة الأبحاث المنشورة