تحديد الاِيمان والكفر
الاِيمان عبارة عن الاِذعان باللّه سبحانه واليوم الآخر ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذه الاَُمور الثلاثة تشكِّل دعامات الاِيمان وأركانه، وما سواها ترجع بشكل إليها.
نعم لما كان ما خلَّف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تراث في مجال المعارف والاَحكام ضخماً لا يمكن استحضاره في الضمير ثمّ التصديق به، اضطرّ العلماء إلى تقسيم ما جاء به النبيإلى قسمين: قسم معلوم بالتفصيل كتوحيده سبحانه والحشر يوم المعاد في مجال العقائد، ووجوب الصلاة والزكاة ونحوهما في مجال الاَحكام، وقسم منه معلوم بالاِجمال نعلم وروده في الكتاب والسنّة، فلا محيص للموَمن أن يوَمن بالاَوّل على وجه التفصيل، وبالثاني على وجه الاِجمال.
قال عضد الدين الايجي: الاِيمان: التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيها علم إجمالاً.(1)
____________
1 ـ الايجي، المواقف، ص 384.
( 14 )
وبعبارة أوضح: أنّ ما جاء به الرسولص إمّا أن يعلم به بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة والجهاد والحج، وإمّا أن لا يعلم به كذلك.
فالموَمن هو الذي يعتقد بصحّة كلّ ما بعث به الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» إلى أُمّته، غير انّ المعلوم بالضرورة، يوَمن به تفصيلاً و ما لم يعلم، يوَمن به على وجه الاِجمال.
ويظهر ممّا تقدم انّ الاِيمان يتجلّى في أُصول ثلاثة:
الاَصل الاَوّل: الاِيمان باللّه سبحانه وتوحيده.
الاَصل الثاني: الاِيمان بالآخرة وحشر الناس في اليوم الموعود.
الاَصل الثالث: الاِيمان برسالة الرسولص وما جاء بها.
والاعتقاد بهذه الاَُصول الثلاثة يورث الاِيمان ويدخل الاِنسان في حظيرته ويتفَّيَ في ظلاله وظلال الاِسلام.
هذا ما عليه علماء الاِسلام دون فرق بين طائفة وأُخرى، وقد آثروا في ذلك ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير و احد من المواقف.
1. روى الاِمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)، قال: «قال النبي ص: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فإذا قالوا حرمت عليَّ دماوَهم وأموالهم».(1)
____________
1 ـ البحار: 68|242.
( 15 )
2.أخرج الشيخان، عن عمر بن الخطاب، انّعليّاً صرخ: يا رسول اللّه على ماذا، أقاتل؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على اللّه».(1)
3. روى أبو هريرة انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
«لا أزال أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّاللّه، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على اللّه».(2) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أنّ محور الاِسلام والكفر كلمة «لاإله إلاّاللّه ومحمد رسول اللّه» و لو اقتصر في بعض على أصل واحد ولم يذكر المعاد وحشر الناس أو لم يذكر رسالته فلوضوحهما.
نعم، ليس الاِيمان بالاَُصول الثلاثة فقط مورثاً للسعادة، ومنقذاً عن العذاب والعقاب، بل لابدّ من انضمام العمل إليه واقترانه بامتثال أوامره ونواهيه في الكتاب والسنّة، وذلك من الوضوح بمكان، وقد وردت في هذا الصدد روايات عديدة نقتصر على قليل منها:
1. روى عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) :
«بني الاِسلام على خمس: شهادة أن لاإله إلاّ اللّه وانّمحمّداً
____________
1 ـ صحيح البخاري: 1|10، كتاب الاِيمان ؛ صحيح مسلم: 7|17، كتاب فضائل علي «عليه السلام».
2 ـ الشافعي: الاَُمّ: 6|157، اقرأ كلامه فيه حول هذا الموضوع.
( 16 )
رسول اللّه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم شهر رمضان».(1)
2. ما روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) متضافراً انّه قال:
«من شهد أن لاإله إلاّ اللّه، و استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم».(2)
وعلى ضوء ذلك فالذي يميز الموَمن عن الكافر هو الاعتقاد بالاَُصول الثلاثة، وأمّا ما يوجب السعادة الاَُخروية فهو في ظلّ العمل بالواجبات والانتهاء عن المحرمات.
ويشير إلى الاَمر الاَوّل ما مرّ من الروايات التي تركِّز على العقيدة ولا تذكر من العمل شيئاً. كما تشير إلى الاَمر الثاني الروايات التي تركز على العمل وراء العقيدة.
إذا عرفت ما يُخرج الاِنسان من الاِيمان ويدخله في الكفر ،يعلم منه انّه لا يصح تكفير فرقة من الفرق الاِسلامية مادامت تعترف بالاَُصول الثلاثة.وفي الوقت نفسه لا تنكر ما علم كونه من الشريعة بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة وأمثالهما.
هذا ما نصّ عليه جمهور المتكلمين والفقهاء.(3)
وها نحن نذكر بعض الشواهد على هذا الموضوع.
____________
1 ـ صحيح البخاري: 1|16، باب أداء الخمس من كتاب الاِيمان.
2 ـ ابن الاَثير: جامع الاَُصول: 1|158.
3 ـ لاحظ المواقف للايجي: 392.
( 17 )
1. قال ابن حزم عندما تكلّم « فيمن يُكفَّر و لا يكفر »:
«وذهبت طائفة إلى انّه لا يُكفَّر ولا يُفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وانّ كلّ من اجتهد في شيء من ذلك فدانَ بما رأى انّه الحقّ فانّه مأجور على كلّحال، إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد.وهذا قول ابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود بن علي وهو قول كلّ من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة (رضوان اللّه عليهم) ما نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً».(1)
2. وقال شيخ الاِسلام تقي الدين السبكي: إنّ الاِقدام على تكفير الموَمنين عسر جداً، وكلّ من في قلبه إيمان، يستعظم القول بتكفير أهل الاَهواء والبدع مع قولهم لاإله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه، فانّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر.(2)
3. وقال أحمد بن زاهر السرخسي الاَشعري: لما حضرت الوفاةُ أبا الحسن الاَشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه ثمّ قال: اشهدوا على أنّني لا أُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة بذنب، لاَنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والاِسلام يشملهم ويعمهم.(3)
____________
1 ـ ابن حزم: الفصل: 3|291.
2 ـ الشعراني:، اليواقيت والجواهر:2|125، ط عام 1378هـ.
3 ـ الشعراني: اليواقيت والجواهر:2|126.
( 18 )
4. وقال التفتازاني: إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر مالم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الاَجساد، واستدل بقوله: إنّ النبي و من بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحقّ.(1)
____________
1 ـ التفتازاني: شرح المقاصد:5|227.
السنّة النبوية وتكفير المسلم
قد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن تكفير المسلم الذي أقر بالشهادتين فضلاً عمّن يمارس الفرائض الدينية، وإليك طائفة من هذه الروايات:
1. بني الاِسلام على خصال: شهادة أن لا إله إلاّاللّه، وانّمحمّداً رسول اللّه، والاقرار بما جاء من عند اللّه، و الجهاد ماض منذ بعث رسله إلى آخر عصابة تكون من المسلمين...فلا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك».(2)
2. أخرج أبو داود عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أيّما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلاّ كان هو الكافر».(3)
____________
1 ـ التفتازاني: شرح المقاصد:5|227.
2 ـ كنز العمال:1|29، برقم 30.
3 ـ سنن أبي داود:4|221، برقم 4687، كتاب السنة.
( 19 )
3. أخرج مسلم، عن نافع، عن ابن عمر، انّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» قال: «إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما».(1)
4. أخرج مسلم، عن عبد اللّه بن دينار، انّه سمع ابن عمر، يقول: قال رسول اللّه ص: «أيّما امرءٍ قال لاَخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلاّ رجعت عليه.(2)
5. عقد البخاري باباً باسم «المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلاّ بالشرك»، يقول النبي ص: إنّك امرء فيك جاهلية، وقول اللّه: (إِنَّ اللّهَ لا يغفرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) .(3)(4)
6. أخرج الترمذي في سننه عن ثابت بن الضحاك، عن النبي ص قال: «ليس على العبد نذر فيما لا يملك، ولا عن الموَمن كقاتله، ومن قذف موَمناً بكفر فهو كقاتله».(5)
7. أخرج ابو داود عن أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)
____________
1 ـ صحيح مسلم: 1|56، باب «من قال لاَخيه المسلم يا كافر» من كتاب الاِيمان.
2 ـ صحيح مسلم: 1|57، باب «من قال لاَخيه المسلم يا كافر» من كتاب الاِيمان، وأخرجه الاِمام أحمد في مسنده:2|22و 60و 142؛ وأخرجه الترمذي في سننه: 5|22 برقم 2637، كتاب الاِيمان.
3 ـ النساء|48.
4 ـ صحيح البخاري: 1|11، باب «المعاصي من أمر الجاهلية» من كتاب الاِيمان.
5 ـ سنن الترمذي: 5|22 برقم 2636، كتاب الاِيمان.
( 20 )
سرية إلى الحرقات، فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلاً فلمّا غشيناه قال: لا إله إلاّ اللّه، فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبيص فقال: «من لك بلا إله إلاّاللّه يوم القيامة؟» قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّما قالها مخافة السلاح والقتل، فقال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ؟ من لك بلا إله إلاّ اللّه يوم القيامة؟» قال: فمازال يقولها حتى وددت انّي لم أسلم إلاّ يومئذ.(1)
8.لما خاطب ذو الخويصرة الرسول الاَعظمص بقوله: اعدل، ثارت ثورة من كان في المجلس، منهم خالد بن الوليد قال: يا رسول اللّه الا أضرب عنقه؟ فقال رسول اللّه ص: «لا، فلعله يكون يصلّي» فقال: إنّه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إنّي لم أُوَمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم».(2)
وعلى ضوء هذه الاَحاديث المتضافرة والكلمات المضيئة عن الرسولص وعلمائنا السابقين المقتفين أثره يعلم انّ تكفير مسلم ليس بالاَمر الهيّـن بل هو من الموبقات، قال سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ)(3)
لم يزل المسلمون منذ قرون غرضاً لاَهداف المستعمرين
____________
1 ـ سنن أبي داود:3|45برقم 2643؛ صحيح البخاري: 5|144، باب بعث النبي اسامة بن زيد إلى الحرقات من كتاب المغازي.
2 ـ صحيح البخاري: 5|164، باب بعث علي وخالد بن الوليد من كتاب المغازي.
3 ـ آل عمران|105.
( 21 )
ومخطَّطاتهم في بث الفرقة بين صفوفهم وجعلهم فرقاً وأُمما متناحرة ينهش بعضهم بعضاً، وكأنّهم ليسوا من أُمّة واحدة كلّ ذلك ليكونوا فريسة سائغة للمستعمرين.وبالتالي ينهبوا ثرواتهم ويقضوا على عقيدتهم وثقافتهم الاِسلامية بشتى الوسائل، ولاَجل ذلك نرى انّه ربما يُشعلون نيران الفتن لاَجل مسائل فقهيةلا تمسّ إلى العقيدة بصلة فيكفِّر بعضهم بعضاً مع أنّالمسائل الفقهية لم تزل مورد خلاف ونقاش بين الفقهاء، فمثلاً:
في مسألة قبض اليد اليسرى باليمنى أقوال فمن قائل بالاستحباب، إلى آخر قائل بالكراهة، إلى ثالث قائل بالتحريم. فلكل مجتهد رأيه فلا يجوز لفقيه أن يكفر فقيهاً أو اتباعه في مسألة القبض، وقس على ذلك مسائل كثيرة تعد من الاَحكام وللاجتهاد فيها مجال واسع.
ونظير ذلك بعض المسائل العقائدية التي ليست من ضروريات الاِسلام بل للعقل والاستدلال دور في تحقيقها، مثلاً:
عصمة الاَنبياء قبل البعثة أو بعدها، أو حدوث القرآن وقدمه، أو صفاته تعالى عين ذاته أو زائد عليها، فليست هذه المسائل محور التوحيد والشرك والاِيمان والكفر ولكلّ محقق، عقيدته ودليله ولا يجوز لآخر تكفيره، ويكفي في ذلك، الاعتقاد بما جاء به النبيإذا لم يكن من أهل التحقيق.
( 22 )
وبما ذكرنا يعلم انّ تكفير طائفة ، طائفة أُخرى لمسائل فقهية أو عقائدية لم يثبت كونها من ضروريات الدين، أمر محظور وزلَّة لا تغتفر وخدمة للاستعمار الغاشم لا غير.
ونحن لا نريد الاِطالة في الكلام وتكثير الاَمثلة، و تكفي في الاطلاع دراسة وضع المسلمين وتشتتهم ضمن اختلاف بعضهم مع بعض في فروع فقهية أو عقائدية ليست من الضروريات.